كثُرت في خطاب الدعوة اليوم تشبيهات المقايضة وتصوّرات المتاجرة في معاملة الله تعالى، اتّكاءً على آيات وأحاديث تستعمل ذلك التشبيه، من دون ضبط لأبعاد معناها وتطبيقها من المُتَكلّم أو عند المُستَقبِل، فنشأ في حِسّ المسلم المعاصر استشعار جادّ لصِلَة العبودية على أنّها صلة مَصرِفية أو بنكيّة على الحقيقة لا المجاز؛ فالعبد يستشعر أنه يُودع في "حسابه" عند الله "رصيد" عبادة ما، وينتظر في "المقابل" مردودها "نقدًا عيانًا"، بذوق حلاوة أو تحقيق أمنية أو دفع مَضرَّة، وإذا زادَ "المُودِع" في رصيده فوق الفريضة نافلة ما، طاشت توقعاته من "شهادة الادخار" تلك، وصار ينتظر "الفوائد المضاعَفَة" لها، من انفتاح أبواب السماء برزق مُنهَمِر، أو تحصيل المكانات العَليّة فوق الخلق في الدنيا وعند الله تعالى في الآخرة، أو غير ذلك من الأطماع والأمنيات.
وما في تلك الأماني والتطلعات بأس لو أنها تنضبط بنفسية العبودية، فتصدر من نفسيّة الطمع في فضل الله تعالى ورجاء وجهه الكريم، بل هذا الطمع من العبادة المحمودة والمطلوبة، وإنما البأس كلّ البأس في انتظار حلاوة العبادة بوصفها مُقابِلًا عَينيًّا للتعبد، واستشعار أنّ الجزاء حقٌّ مستوفًى لقاءَ التفضّل بالقيام بالعبادة، كل ذلك بنفسيّة التشرّط عليه تعالى، أو التهديد الضمني بطلب البُرهان وإلا أُفلِتَ العِنان!
الأصل في العبد العبودية بكل ما تحمله العبودية من معانٍ ودلالات، على رأسها الاضطرار والافتقار، لا على أساس "تصالح المصالح" أو "تبادل المنافع" مع ربه
فإمّا أن نشهد جدوى العبادة على ما نتوقع وحين نتوقع، أو يتزعزع يقيننا في نفع العبادة بالكلية، وربّما على المدى فيمن نعبد!
والحقّ أنّ الأصل في العبد العبودية، أي أنه يتعبد لله تعالى على أساس العبودية، بكل ما تحمله العبودية من معانٍ ودلالات، على رأسها الاضطرار والافتقار، لا على أساس "تصالح المصالح" أو بنفسية "تبادل المنافع" مع ربه، فإنّ تشرّط الأجرة وتبادليّة المنافع واستيفاء الحقوق لا يكون إلا من نِدٍّ لندّ، والعبد لا يكون نِدّا لسيّدِه بحال، ولا يَحِق له أن يتطاول بتوهّم ذلك، فإنّك مضطر للعبودية بحُكم خِلقتك عبدًا من جهة، ثم أنتَ المحتاج لعبادة ربك بحكم افتقارك إليه وتعلّق نجاتك برضاه عنك من الجهة الأخرى، استحضار هذه المعاني يبدّد نفسية التفضل والمنّ على الله تعالى بـ "اختيار" ممارسة العبودية له! فإنّ نفع التعبد أو ضرر تركه عائد بالكلية على العبد وحده، فلا يزيد الطائع في ملك الله تعالى ذَرّة، ولا ينتقص العاصي منه فَتيلًا!
وأمّا أنّ الله تعالى جعل لعبده فيما يمارس من عبودية مصالح ورتب له فيها منافع، ففضل مَحضٌ من المولى سبحانه على عباده، يبسطه أو يقبضه كيف يشاء على من يشاء، وما على العبد إلا التسليم لله، طامعًا في فضله، ومُستَبشرًا بوعده، وموقنًا أنّ ربه ما كان ليضيع إيمانه بحال، دون شرط ولا قيد.
العبودية تقوم على التذلل والخضوع والافتقار لله تعالى، ومن ثَم فنفع العبادة لا يمكن أن يتولَّد إلا حين تنبع من نفسيّة عبد، وأثرها لا يمكن أن يَقَرَ إلا في نَفْس عبد
ولذلك على كثرة صور العبادة الصادرة منا، لا نكاد نستشعر أثرها، لأنّ الخلل كامن فينا نحن بداية وانتهاء، فالنفسية المتعالية المنّانة على الخالق تعالى أبعد ما تكون عن إيصال صاحبها لحلاوة العبادة، التي لا يمكن أن يذوقها إلا "عبد" بداية؛ فالعبد هو الذي يرجو فضل الله ويخشى عقابه ويوقّر جنابه؛ لأنّ العبادة والتعبد والعبودية كلها تقوم على التذلل والخضوع والافتقار لله تعالى، ممن يدرك حق خالقه عليه ويشعر بحقيقة حاجته له، وعدم استحقاقه لشيء عليه إلا أن يتفضل سبحانه، ومن ثَم فنفع العبادة لا يمكن أن يتولَّد إلا حين تنبع من نفسيّة عبد، وأثرها لا يمكن أن يَقَرَ إلا في نَفْس عبد.
وما أشبه حالنا مع تمنّيات حلاوة الطاعات والعبادات بحال من مَنّوا على رسول الله - صلى عليه وسلم - بدخولهم في الإسلام من دون مقاتلة، فردّ الله عليهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، والحلّ أن نطرق باب الله طرق عبد يسـتأذن على سيده، وطامعٍ يرجو ربه، وخائفٍ يحتمي بمولاه، ومخلوقٍ يؤدّي حق خالقه عليه، قبل كل حاصل وبغض النظر عن أي تحصيل.