حين يطلع أحد الغزيين – أو الفلسطينيين عمومًا – في فيديو مصور أو لقاء تلفزيوني أو إذاعي ما، أو يكتب منشورًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي يتحدث فيه عن الثبات ويسرد ما يحدث في غزة وهو مبتسم وثابت، فيحفّز الناس للبذل، ويثبت المرابطين، ويطمئن الأهالي المغتربين على أبنائهم وأقاربهم وأحبابهم الرازحين تحت الحرب، فإنه لا يبالغ إطلاقًا، وإن ظنّ ظانٌّ ذلك.
يخرج الناس في غزة إلى هدنة للحظات – أغلبها تكون كاذبة وصورية ومجرد كلام على ورق وهي هدنة في حقيقتها لصالح الصهيوني وليست لصالح الفلسطيني إطلاقًا – فيدورون في الشوارع يلملم الواحد منهم بعض الأخبار عن الأصدقاء والأهل الذين لم يستطع الوصول إليهم تحت الحرب، وفي ظل انقطاع التيار الكهربي، والإنترنت وغيره من وسائل الحياة – لا وسائل التواصل فحسب – ويعود محملًا بالهموم والوجع إلا أنه لم يفقد قوّته المعنوية وشجاعة قلبه.
كل لحظة يستطيع أن يقتنصها الغزيون المغرّدون والمدوّنون من بين وابل القصف هي فاصل قصير يعلمون تمام العلم أنه قد تتلوها مرحلة أكثر ضراوة وشراسة وصعوبة، إلا أنهم يشعرون أنهم في فسحة مؤقتة – قد تنتهي باستشهاد أحدهم؛ فقد رأوا رأي العين وبملء إحساس الوجع والفقد كيف استشهد أحباب كثر بعد أن أطلقوا رسائل قوية خُلّدت – لكنهم ما زالوا يخرجون ليدعموا الروح المعنوية ويثبطوا الحرب النفسية التي تشنها صهيون بصحبة حربها الدموية المجرمة ضدهم.هذا هو الجيل الذي راهن عليه كبار القيادات الفلسطينية الشريفة أنه لن ينسى حقه وسيسترد الوطن المسروق، والذي طالما حاولت صهيون وأعوانها أن تنسيه حقه وتسلبه أمل العودة ، وأن تروّج لفكرة أن من يحمل مفتاح داره آملًا العودة ذات فتح فلسطيني/ إسلامي حقيقي، هو مجرد إنسان واهم حالم يعيش حالة وجدانية ستزول حين يكبر المهجّرون اللاجئون فيخرّفون أو يموتون، ويكبر الصغار ناسين غير آبهين بحق العودة وثوابت فلسطين المسلمة.تحت الحرب وبرغم كل القصف والدمار تجد الفلسطيني واقفًا على ثغرة ما بسلاحه (بندقيّةً كان هذا السلاح أو قلمًا أو ريشةً أو صوتًا عذبًا أو منبرًا إذاعيًا، أو قناة إخبارية أو إعلامية أو قدرات أخرى تكنولوجية أو فنيّة أو دعم نفسي وتربوي) كل منهم يقاتل من المسافة صفر
تحت الحرب وبرغم كل القصف والدمار تجد الفلسطيني واقفًا على ثغرة ما بسلاحه (بندقيّةً كان هذا السلاح أو قلمًا أو ريشةً أو صوتًا عذبًا أو منبرًا إذاعيًا، أو قناة إخبارية أو إعلامية أو قدرات أخرى تكنولوجية أو فنيّة أو دعم نفسي وتربوي... إلخ. من أشكال المقاومة) كل منهم يقاتل من المسافة صفر حرفيًا.
حين يطلعُ واحدٌ منهم ليقول باللكنة الفلسطينية التي باتت محببّة للعالم الحُر: "انقطعت عِنّا الكهربا، وانقطعت كل وسائل التواصل، وما في ميّة ولا إنترنت..." لا تجده يختم كلامه إلا وقد قال ما معناه "إن الحاجة أم الاختراع يا هؤلاء" فمنهم من يستبدل وقود السيارات بالزيت الخاص بالطهي، منهم من يجمع جميع الأجهزة المحمولة ويشحنها على بطارية سيارة واحدة في حارة ما، ويقول "احنا شعب ما بيغْلَب" شعب فلسطين شعبٌ جبّار بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ؛ فقد جبّر كسر العروبة أمام عدوها، وجبر وجع أبنائه بثأره ممن خذلهم وظلمهم وطغى عليهم، وبكل الجبروت الرشيد كان أقوى من أية هجمة غادرة حتى جعل العالم أجمع ذاهلًا يتابع ما فعله في السابع من أكتوبر 2023 ، ذلك التاريخ المجيد الذي سيخلُد ويشكّل علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية.
الشراسة والدموية ليست طبع الفلسطينيين ولا رغبتهم إلا أن صاحب الحق إن نام عن حقهه وصَمَت فسيستحق أن يداس عليه أكثر وأن يموت ويُنسى وها هو في معركة طوفان الأقصى، يثبت للعالم أجمع أنه ليس متسولًا، لا للعواطف ولا المال ولا حتى الدعم المعنويّ
وحقيقةً... إن الشراسة والدموية ليست طبع الفلسطينيين ولا رغبتهم إلا أن صاحب الحق إن نام عن حقه وصَمَت فسيستحق أن يداس عليه أكثر وأن يموت ويُنسى، إنما هذا ليس دأب الفلسطيني الذي – برغم ما شاع عنه أنه يستمرئ المأساة ويستجدي الدعم – ها هو في معركة طوفان الأقصى، يثبت للعالم أجمع أنه ليس متسولًا، لا للعواطف ولا المال ولا حتى الدعم المعنويّ، هذا الشعب الذي حفر ستة أبطال من رجالاته المعتقلين الشرفاء نفقًا بملعقة طعام حتى زلزل المعتقل، واهم من يظن أن ذلك الشعب متسوّل دعم وعتاد أو حتى مال وهو (أعني المال) أرخص وأقل ما يمكن أن يقدّمه مسلم حقيقي لمسلم مبتلى.
برغم كل ما يتعرض له أهل غزة تجد في كل بيت ضحكة طفلٍ تشرح القلب، عجوزاً لا تزال تجمع أيدي أحفادها وتنقش فوقها خريطة فلسطين (التاريخية الكاملة) تنقشها بالحناء والحكايا والدمع، وبجوارها يجلس الجدُّ ويروي من أوجاع نكبة الثمانية والأربعين ما عاشه، يرويه للأحفاد بطولات حقيقية سطرتها المقاومة في النكبات المتتالية.
غزة هي مجموع أناس يحاولون النجاة بأحلامهم وآمالهم من واقع معيشي صعب ويبنون لأنفسهم مستقبلًا أفضل بأقل الإمكانات المتاحة
من هي غزة أساسًا؟ ومن هم الناس الذين يمثلون بنك أهداف صهيون؟ غزة هي مجموع أناس يحاولون النجاة بأحلامهم وآمالهم من واقع معيشي صعب ويبنون لأنفسهم مستقبلًا أفضل بأقل الإمكانات المتاحة، عروس تنتظر ليلة العمر وشاب يحلم بالتخرّج وطفل أقصى أمنياته لعبة أو كيس حلوى... ووالدان وجدان يراقبان ذلك بلهفة وحب ودعم وأمنيات خائفة من مستقبل مجهول في وطن مهدّد!
برغم القصف والموت والدمار... كيفَ ولماذا يتمسكُ هؤلاء بالحياة؟ إنّها القيمة الجميلة الكبرى التي يبطّنها الأمل، والإيمان، والإصرار، والانتماء، والرضى، والمثابرة، والتحدي، كل ذلك في ثوب المقاومة...ثم تجد طفلًا غزيًّا - لم يتعد عمره الثانية عشرة ربما - يصف فرحته بهبّة المقاومة وكأنها كوب منعش من "الآيس كوفي – القهوة المثلّجة" وآخر في مثل عمره يقول: "والله منظر صواريخ المقاومة بيشرح القلب" وتجد كل الغزيين حين نكلمهم – نحن المغتربين – لنطمئن على أن أهلنا ما يزالون بخير تحت الحرب والقصف والدمار، نجدهم هم من يقوون من عزيمتنا، يحثوننا على الثبات، نبكي ويرددون: "وحدوا الله، سامحونا، نحن مرابطون، نحن راضون، سنرتقي بشرف، لن نترك أملًا للصهاينة أن ينتصروا، نحن نشعر بالعزة..." ولا يطلبون إلا الدعاء فقط، هل تظن بربك أن مثل هذه الثلة سوف تنهزم، أو تُذلَّ أو تحتاج دعمًا ذات يوم من أي أحد؟ كائنًا ما كان، كائنًا من كان!
قيمة الدعم النفسي الذي ينشره الغزيون بوعي أو بغير وعي كبيرة جدًا أمام إعلام العدو الذي لا يزال يوهمنا أنه قويّ وصامد وثابت فهو يقوّي من عزم أصحاب الحق إذ تخشى صهيون الموت ويطلبه المسلم شهادةً
وقيمة مثل هذا الدعم النفسي الذي ينشره الغزيون بوعي أو بغير وعي وبتلقائية غير مدروسة، قيمة كبيرة جدًا أمام إعلام العدو الذي لا يزال يوهمنا أنه قويّ وصامد وثابت – بينا كل الشرفاء يعرفون الحقيقة أن كل صهيوني يمثّل القوة يعيش رعبًا غير مسبوق حدّ أنه قد يرتدي "البامبرز" خوف المقاومة وخوف الفضيحة إن أفلت زمام سيطرته من الرعب – وفي الحقيقة إن الدعم المعنويّ بنشر مثل هذه المنشورات المصورة والمكتوبة يقوّي من عزم أصحاب الحق – وإن كان حقهم هو القوة بعينها – وهذا ما نؤمن به إذ تخشى صهيون الموت ويطلبه المسلم شهادةً؛ فهو يعلم أنها باب الجنّة، فليكثر الشرفاء من مثل هذا المحتوى .
أخيرًا...
نحن لا نقول إن الغزيين الداعمين والراضين هم محض آلات من معدن أو بلاستيك ليسوا أناسًا لهم قلوب ولا هم مخلوقون من لحوم ودماء ومشاعر، إلا أن في القضية وجهًا لا يظهر للعيان يعرفه صاحب الحق وقائد المرحلة، وإنّما للبطولة وجه مشرق برغم قسوة ممشى الوصول إليها، ودربها دربٌ وعر لا يسلكه إلا الرجال، وحين نقول: الرجال، فنحن نعني كل ما يتنفس ويقيم في غزة وفلسطين .
ويعزّ علينا أننا خارج هذا المشهد المشرّف... لكن حسبنا أنَّ كلًا منا له رسالة يؤديها في مكان ما وزمان ما.