لقد أثبتت الأحداث على مر الزمان والأحداث التي تمر بها أمتنا الإسلامية الآن وبالأخص ما تمر به أرض فلسطين المباركة أن الانضمام لطريق أهل الحق قد يكون سهلًا، أما الثبات على تكاليف طريق أهل الحق فهو الذي يُمَحِّص القلوب، ويفرز الهمم، ويفضح النوايا السيئة، والضمائر الميتة، والمقاصد النفعية، وما قصة طالوت وجالوت بخافية عنا.
أولًا/ الثبات منحة ربانية
لقد أثبت قادة المقاومة الفلسطينية - وفي القلب منهم قادة حماس - وأثبت الشعب الفلسطيني، أن الثبات ليس بحجم العضلات، ولا بضخامة البنيان، ولا بارتفاع الصوت، ولا بشيء من ذلك كله إنما هو منحة ربانية يهبها لمن بذل وضحَّى لا لشيء من حطام الدنيا بل طاعة لله تعالى وطمعًا في أن ينال مثوبته ورضاه، ويدرك ذلك جيدًا من ينظر لحال فرعون هذه الأمة أبو جهل في غزوة بدر وحال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
إن من ثبتوا على طريق الحق إنما أخذوا بأسبابه، وحققوا في أنفسهم موجباته، وأيقنوا أنهم رُعاةً وحُرَّاسًا وأمناء على تضحية من ضحوا وثبات من ثبتوا وصمود من صمدوا، وأمناء كذلك على الدماء التي سالت، والأنفس التي أزهقت، والأعراض التي استبيحت وانتهكت!
إن الواجب والأمانة والمسؤولية تجعل أهل الحق يزيدون البذل ويضاعفون التضحية خشية أن يلقوا الله تعالى وقد فرَّطوا في الحق ونكثوا العهد وخانوا الأمانة.
الدين لا ينتصر والأمم لا تنهض بدون ثبات ولا تضحية، ولا تضحية بدون إخلاص، ولا إخلاص بدون التخفف من الدنيا والتعلق بالآخرة، فكلما أحسن المرء توجهه لله تعالى وتخفف من الدنيا وملذاتها كلما سهل عليه الثبات وسهلت عليه التضحية
ثانيًا/ الثبات في القرآن الكريم
لقد ذكر الله تعالى الثبات في القرآن الكريم عدة مرات وأمر المؤمنين بأن يثبتوا في وجه عدوهم، ولا ينكثوا عهودهم، ولا ينكصوا ولا يفروا؛ لأن في ثباتهم الفوز والتمكين والفلاح، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45]
وكذلك وضع الله تعالى شرطًا لتثبيت الله تعالى للمؤمنين بأن ينصروا الله تعالى في أنفسهم فلا يعصون له أمرًا ولا يحيدون عن الطريق الذي ارتضاه لهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]
ولقد دل الله تعالى عباده المؤمنين على أن التمسك بكتاب الله تعالى هو أفضل وسيلة لتحصيل الثبات وتقويته في النفوس، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]
ثم حذَّر الله تعالى من التولي وعدم الاستجابة لأمره، قال تعالى: {... وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]، وقال تعالى: {... وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، ثم حذر الله تعالى من مغبة النكث والنكوص والتخاذل، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [محمد: 10]
إن ما ذكرنا من آيات الثبات ما هو إلا غيض من فيض من مَعِين القرآن الذي لا ينضب، ومن يتتبع آيات القرآن الكريم بإخلاص وصدق يفتح الله له مغاليق الأمور وأسرارها.
ما ذُكِرَ في القرآن الكريم تلقاه جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - الذي تربى على مائدة القرآن الكريم وطبَّقوا كل ما فيه تطبيقًا عمليًا كما يحب ربنا ويرضى فأصبحوا يضرب بهم المثل في حسن الاتباع إلى يومنا هذا!
ثالثًا/ نماذج من ثبات الصحابة
إن ما ذُكِرَ في القرآن الكريم تلقاه جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - الذي تربى على مائدة القرآن الكريم وطبَّقوا كل ما فيه تطبيقًا عمليًا كما يحب ربنا ويرضى فأصبحوا يضرب بهم المثل في حسن الاتباع إلى يومنا هذا!، من منا لم يسمع عن ثبات ياسر بن عامر بن مالك، وزوجته سُميّة بنت خياط، وولده عمار بن ياسر - رضي الله عنهم جميعًا - حين تحدوا مشركي مكة وصناديد قريش وثبتوا على الإسلام ولم يفت التعذيب من عزيمتهم ولم يثنهم عن دينهم حتى سقطت السيدة سمية شهيدة بعد أن طعنها أبو جهل بحربة في موضع عفتها حتى ماتت.
ومن منا لم يسمع عن ثبات بلال بن رباح - رضي الله عنه - الذي ضرب أميز الأمثال في الصبر على التنكيل والثبات على الحق رغم ما حدث له من تعذيب لا يتحمله أحد، إلا من كان قلبه بالله موصولًا وعليه متوكلًا!
ومن منا لم يسمع عن جرأة وثبات عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - حين تحدى المشركين وصدح بالقرآن الكريم حول الكعبة (مكان تجمع صناديد قريش) فأوجعوه ضربًا وهو ماض في قراءته يقرع آذانهم بآيات القرآن الكريم، وعندما أشفق عليه الصحابة - رضوان الله عليهم - قال لهم: "ما كان أعداء الله أهون عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدًا"، قالوا: "حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون"
ومن منا لم يسمع عن تضحية وثبات سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - حين تحدى والدته وثبت على الإسلام برغم تهديدها له، عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قالَ: "حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حتَّى يَكْفُرَ بدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ، قالَتْ: زَعَمْتَ أنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بهذا، قالَ: مَكَثَتْ ثَلَاثًا حتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا يُقَالُ له: عُمَارَةُ، فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو علَى سَعْدٍ، فأنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - في القُرْآنِ هذِه الآيَةَ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8] (صحيح مسلم)
وفي روايةٍ ابن أبي حاتم أنه قال: "يا أُمَّه، تعلمين واللهِ لو كانت لك مِائةُ نَفْسٍ، فخرجتْ نَفْسًا نَفْسًا؛ ما تركتُ ديني هذا؛ فإن شئتِ فَكُلي، وإن شئتِ لا تأكلي، فأَكَلَتْ.
لولا أننا أمرنا ألا نستن إلا بمن مات (فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) لذكرنا أناسًا يعيشون بيننا الآن يضربون أفضل الأمثلة في الثبات لا تقل بحال من الأحوال عن الأمثلة التي ضربها أسلافهم.
ومن منا لم يسمع عن موقف السيدة أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها وعن أبيها - التي ضربت مثالًا في الصمود والثبات على الحق في وجه أبو جهل فرعون هذه الأمة، قال ابن إسحاق: فحدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: "لما خرج رسول الله ﷺ وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشًا خبيثًا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي"
ومن منا لم يسمع عن تضحية وثبات الشاب الثري المُنَعَّم مُصعب بن عمير - رضي الله عنه - الذي لاقى في سبيل إسلامه ما لاقى فثبت ولم تلن له قناة، جاء في سيرة ابن اسحاق عن سعد بن أبي وقاص قال: "كنا قومًا يصيبنا صلف العيش بمكة مع رسول الله ﷺ وشدته، فلما أصابنا البلاء اعترفنا لذلك، وصبرنا له، وكان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حُلَّة مع أبويه، ثم لقد رأيته جهد في الإسلام جهدًا شديدًا حتى لقد رأيت جلده يتحشف (يعني يتساقط) تحشف جلد الحية عنها حتى أن كنا لنعرضه على قسينا فنحمله مما به من الجهد، وما يقصر عن شيء بلغناه، ثم أكرمه الله - عز وجل - بالشهادة يوم أحد"
إن قائمة من ضحوا ومن ثبتوا من جيل الصحابة والتابعين طويلة بل أطول من أن تحصى، وممتدة بطول الزمان إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولولا أننا أمرنا ألا نستن إلا بمن مات (فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) لذكرنا أناسًا يعيشون بيننا الآن يضربون أفضل الأمثلة في الثبات لا تقل بحال من الأحوال عن الأمثلة التي ضربها أسلافهم.
الثبات الأسطوري لقادة المقاومة الفلسطينية قد أذهل العالم وحيَّر القادة العسكريين وأربك حسابات العدو المحتل الغاشم
رابعًا/ بعض النماذج من ثبات قادة المقاومة
إن الثبات الأسطوري لقادة المقاومة الفلسطينية قد أذهل العالم وحيَّر القادة العسكريين وأربك حسابات العدو المحتل الغاشم، وسأسرد هنا بعض الكلمات الخالدة التي سطرها قادة المقاومة:
قال الشهيد "أحمد ياسين": "لن يضر حماس أو أحمد ياسين أن أسقط شهيدًا فهي أغلى ما نتمنى"
وفي أحد البرامج الفضائية، وجَّه المُحاور سؤالًا إلى الشهيد البطل "صلاح شحادة" رحمه الله وقال له: "إن معظم أجهزة المخابرات حول العالم قد اخترقت! فلماذا تستبعدون أن يكون بين صفوف القسام خائن؟" فرد الشهيد - رحمه الله - على سؤاله ردًا موجزًا حازمًا وحاسمًا وقال: "إن البرنامج العبادي والجهادي الذي يتربى عليه الفرد في كتائب القسام لا يصبر عليه خائن"
وقال الدكتور "عبد العزيز الرنتيسي" قبل استشهاده: "إن الموت آت لا محالة، بالأباتشي أو بالسرطان أو بأي شيء آخر، ولكنني أرحب بالموت بالأباتشي"
ويقول الأستاذ خالد مشعل: "إن الله الذي فتح القدس وحررها من أيدي الصليبيين موجودٌ وقادرٌ، وله الحكمة في ابتلائه، ولا بد أن الفرج سيأتي، ولا بد بعد العسر يسرًا"
ويقول الأستاذ "إسماعيل هنية": "إن الاحتلال يألم كما يألم الشعب الفلسطيني، ولكن الشعب يرجو الحرية والكرامة والشهادة، بعكس الاحتلال الذي يرجو الحياة"
ومما قاله الدكتور "محمود الزهار" بعد أن ودع ابنه الأكبر خالد: "كلنا مشاريع شهادة في سبيل الله، ولن نضعف أو نستكين ومنذ اللحظة الأولى كان خيارنا واضحًا إنه الجهاد نصر أو شهادة"
ولا يفوتنا ونحن في هذا المقام أن نسجل الثبات الأسطوري للشعب الفلسطيني بأسره؛ فالقادة إنما يستمدون الثبات من ثبات من يقودونهم، والشعب إنما يستمد ثباته من ثبات قادته.
الركون إلى الدنيا وملذاتها، كالسوس الذي ينخر في جسد الأفراد وبالتالي في جسد الأمة فتعيش تابعة ذليلة، خاملة الذكر، مُترهلة الجسد، متبلدة الإحساس، حقيرة الشأن، إمَّعة الرأي، مجهولة المصير
خامسًا/ بعض موانع الثبات
عن ثوبان مولى رسول الله ﷺ أن النبي ﷺ قال: "يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها، فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ، ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ، فقال قائلٌ: "يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ" (صحيح أبي داود)
إن الركون إلى الدنيا وملذاتها، وتدني الغايات وصِغرها، وطول الأمل، والغفلة عن الثواب، والبعد عن مواطن الطاعات، والبعد عن صُحبة الصالحين، والخوف من مَغبة الثبات في وجه الظالمين... كلها كالسوس الذي ينخر في جسد الأفراد وبالتالي في جسد الأمة فلا يُؤبه بقدرها، ولا يُهاب ركنها، فتعيش تابعة ذليلة، خاملة الذكر، مُترهلة الجسد، متبلدة الإحساس، حقيرة الشأن، إمَّعة الرأي، مجهولة المصير.
لم تخلق النفوس الراقية لتزاحم البلهاء السذج المهازيل، ولكنها خُلِقت لتنافس العظماء في ثباتهم تلبية لأمر الله تعالى
أخيرًا أقول:
إن الثبات هو أغلى ما تمتلكه النفوس الراقية التي تترفع عن الدنايا وتتعالى على سفاسف الأمور؛ فلم تخلق النفوس الراقية لتزاحم البلهاء السذج المهازيل، ولكنها خُلِقت لتنافس العظماء في ثباتهم تلبية لأمر الله تعالى، وعينها تحت عرش ربها طمعًا في أن يكون هناك مُستقرها.
وأقول:
إن الدين لا ينتصر والأمم لا تنهض بدون ثبات ولا تضحية، ولا تضحية بدون إخلاص، ولا إخلاص بدون التخفف من الدنيا والتعلق بالآخرة، فكلما أحسن المرء توجهه لله تعالى وتخفف من الدنيا وملذاتها كلما سهل عليه الثبات وسهلت عليه التضحية.
وبدون الثبات والتضحية، تباد الأمم، وتنهار الحضارات، وتتخلف المجتمعات، وتزهق الأرواح، وتصادر الحريات، وتنتهك الأعراض، وتداس الكرامة، وتعيش الأمم في تبعية ذليلةً مهينة لا تتخذ قرارًا ولا تقرر مصيرًا.
نسأل الله تعالى لأمتنا عزة تضمد بها جراحها وتلم بها شعثها وتوحد بها كلمتها وتحفظها بها من الفتن