في صباح يوم السبت الموافق 7 أكتوبر 2023م استيقظ العالم على أحداث طوفان هادر لم تشهد البشرية مثله من قبل، طوفان لا يقف أمامه شيء إلا اقتلعه من جذوره وجرفه حيث الفناء واللا عودة، هذا الطوفان هو "طوفان الأقصى" الذي خططت له ببراعة ونفذته بكفاءة فصائل المقاومة الفلسطينة وفي القلب منها كتائب القسام.
أولًا/ لماذا "طوفان الأقصى"؟
إن ملحمة "طوفان الأقصى" إنما نُفِّذت بهذه الصورة غير المسبوقة لـ:
• القضاء على أسطورة أن الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر
• بيان أن جُعبة حماس بها من المفاجآت ما لا يتصوره عقل العدو وأذنابه، وأن ما وراء الأكمة أكبر بكثير مما رأوه
• بيان أنه لا مكان لصهيوني واحد على شبر واحد من أرض فلسطين
• تلقين المُطبِّعين مع الكيان الغاصب درسًا مفاده "لقد راهنتم على الحصان الخاسر"!
• طمأنة شرفاء العالم أن جسد الأمة ما يزال حيًا، وقلبها ما يزال ينبض، وأن المقاومة مبدعة وولَّادة، وأن الأمل لا ينقطع طالما وُجد في الأمة رجال مثل رجال فصائل المقاومة
• طمأنة الشعب الفلسطيني أجمع أن المقاومة لن تتخلى عنهم أبدًا، ولن يكونوا يومًا لقمة سائغة لعدو محتل غاشم، وأن اليد التي تحاول أن تمتد إليهم أو إلى مقدسات الأمة بسوء ستقطع في الحال
الشعب الفلسطيني عامة وأهل غزة خاصة يعد الوطن بالنسبة لهم عقيدة، والصراع من أجله صراع وجود وليس صراع حدود والوطن لديهم يستمد قيمته مما فيه من مقدسات قبل ما فيه من ممتلكات وذكريات
ثانيًا/ ماذا يعني الوطن بالنسبة للشعب الفلسطيني؟
إن تعريف كلمة "وطن" تختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر، حسب ما يعتنق كل فرد من عقيدة ومفاهيم ومبادئ، وحسب قيمة هذا الوطن بالنسبة له، الشعب الفلسطيني عامة وأهل غزة خاصة يعد الوطن بالنسبة لهم عقيدة، والصراع من أجله صراع وجود وليس صراع حدود، وبالنسبة للشعب الفلسطيني عامة وأهل غزة خاصة فإن الوطن لديهم يستمد قيمته مما فيه من مقدسات قبل ما فيه من ممتلكات وذكريات.
ومن هذا المنطلق تجد أن هناك من بين أفراد الشعب الفلسطيني من يحتفظون بمفاتيح ديارهم التي تهدمت وأعيد بناؤها عدةَ مراتٍ، وهناك من يمتلكون عقود ملكية أراضيهم التي استولى الصهاينة عليها وبيعت من شخص لآخر عدة مرات.
إن هؤلاء إنما يفعلون كل ذلك ليقينهم أن من يتنازل عن حقه الشخصي يمكنه بسهولة أن يتنازل عن الحق العام للوطن، وليقينهم أن أرض فلسطين - كل فلسطين - وقف إسلامي لا يحق لمحتل مهما امتلك من قوة أن يمشي على أرضه أو يستظل بسمائه أو ينعم فيه بالراحة، وليقينهم بأن العودة حقٌّ لكل فلسطيني هُجِّرَ عُنوَةً وقَهْرًا، أما بالنسبة للذين ما زالوا يعيشون داخل وطنهم وعلى أرضهم فمن السهل عليك أن تقتلع أنياب وحش كاسر مفترس أو تقتلع أنياب حية رقطاء من أن تقترب من حياض أحدهم وحماه!
الأحداث والمجازر المتتالية التي ارتكبها ويرتكبها بنو صهيون في حق الشعب الفلسطيني علَّمت الشعب الفلسطيني وقادة المقاومة ورجالها وشرفاء العالم أن الإحتلال لا يفهم إلا لغة واحدة وهي لغة المقاومة، ولا يحترم إلا من يُرغِم أنفه ويدوس كرامته
شذرات ودروس تربوية من ملحمة غزة الأبية:
من عنوان هذه الفقرة نفهم أننا سنتحدث عن نقاط موجزة في مبناها، ولكنها مهمة وعميقة وقيِّمة في معناها، بما يتناسب مع قيمة شذرات الذهب، وبما يليق بأدب الملاحم ومعاني الإباء، وهذه الشذرات والدروس نوجزها فيما يلي:
1. إن الأحداث والمجازر المتتالية التي ارتكبها ويرتكبها بنو صهيون في حق الشعب الفلسطيني علَّمت الشعب الفلسطيني وقادة المقاومة ورجالها وشرفاء العالم أن الإحتلال لا يفهم إلا لغة واحدة وهي لغة المقاومة، ولا يحترم إلا من يُرغِم أنفه ويدوس كرامته، وأنه لكي يكون لك صوت مسموع لا بد أن تمتلك من القوة ما تخرس به لسان المحتل الغاشم.
2. أن كسر هيبة وكرامة الجيش الذي قالوا عنه إنه لا يُقهر لا بد أن يكون من خلال عمل نوعيٍ مزلزلٍ؛ لكي يظل هذا العمل وصمة عار في جبين العدو إلى أن يأذن الله تعالى بزواله.
3. أن كسر هيبة وكرامة الدول المؤيدة للكيان المحتل وإحراجها بل وفضحها أمام شعوبها وأمام العالم بأسره لا تقل أهمية عن كسر هيبة وكرامة الكيان المحتل نفسه.
4. أن فصائل المقاومة الفلسطينة - وفي القلب منها كتائب القسام - لم تخذل كل من راهنوا على إخلاص رجالها لقضيتهم ووفائهم لشعبهم، وأن شعاراتهم التي يطلقونها إنما يطلقونها للتنفيذ وليس للتهديد.
الشعب الفلسطيني الأبي سطر ألمع الأمثلة والصور في البذل والتضحية والصبر على تبني قرارات قادة المقـاومة بدون ضجر ولا ملل ولا شكوى؛ لتظل سلسلة الأجيال الصامدة قوية متينة تستعصي على الاستسلام
5. أن الشعب الفلسطيني الأبي قد سطر ألمع الأمثلة والصور في البذل والتضحية والصبر على تبني قرارات قادة المقـاومة بدون ضجر ولا ملل ولا شكوى؛ لتظل سلسلة الأجيال الصامدة قوية متينة تستعصي على الاستسلام.
6. أن ما يتعرض له عامة الشعب الفلسطيني بكل فصائله قاسٍ ومؤلم بل ووحشي، ولكن هؤلاء جميعهم تربوا على عقيدة (النصر أو الاستشهاد)، فهم لا يتعلقون بالدنيا تعلق من قذف الله في قلوبهم الوَهَن.
7. إن سقف الطموح عند عامة الشعب الفلسطيني محدود للغاية، فلو ضربنا مثالًا بالأم الفلسطينية نجد أن سقف طموحها هو أن يرزقها الله الشهادة أو يرزق أحد أبنائها الشهادة فتفوز بلقب أم الشهيد، أو يرزق زوجها الشهادة فتفوز بلقب زوجة الشهيد، وهذا على عكس غيرها من الأمهات في أي قطر آخر تطمح فيه الواحدة منهن أن يلتحق أبناؤها بالتعليم، ويحصلوا على أعلى الشهادات، ويرتقوا إلى أعلى المناصب، ويتزوجوا، وينجبوا أطفالًا، ثم تحمل هي أطفالهم وتسعد بهم حتى يتزوجوا! يا له من بون شاسع!
8. إن ثبات المقاومة والتفاف الشعب الفلسطيني حولها جعل كل شرفاء العالم يساندون القضية ويدعمونها بمختلف سُبُل الدعم، وهذا في حد ذاته بمثابة نفض لتراب الخنوع، وإيقاظ للقلوب، واستنهاض للهمم، وإحياء لعدالة القضية.
الجهود التي يبذلها قادة المقـاومة وأفرادها قد شاهد نتيجتها القاصي والداني في أسلحة متطورة، وأفكار مُبدعة، وخطط نوعية لا تخطر على بال بشر، ونتائج مذهلة أفقدت العدو توازنه
9. إن الأحداث المتتابعة كشفت أن قادة المقاومة وأفرادها لا ينامون ولا يتذوقون طعمًا للراحة فسكوتهم تفكير، وهدوءهم تخطيط، وأحلامهم التي يظن الجميع أنها مستحيلة يحولونها إلى واقع ملموس.
10. إن الجهود التي يبذلها قادة المقـاومة وأفرادها قد شاهد نتيجتها القاصي والداني في أسلحة متطورة، وأفكار مُبدعة، وخطط نوعية لا تخطر على بال بشر، ونتائج مذهلة أفقدت العدو توازنه، وأفقدت كل داعم للعدو الصهيوني صوابه حتى أصبح جميعهم يهذي هذيان من أصابه مس من الشيطان.
11. إن قادة المقاومة وأفرادها وعموم الشعب الفلسطيني بشر كباقي البشر لهم رغبات وآمال وتطلعات إلا أنهم أحسنوا ترتيب الأولويات، وقدموا ما هو باق على ما هو عرض زائل.
12. إن فصائل المقاومة علمتنا أننا عندما نضم الجهود بعضها إلى بعض ونصهرها في بوتقة الإيثار، ونسبرها بالعقل، ونغمسها في وعاء اليقين بالله تعالى نكون بذلك قد تمكَّنا من الحصول على سبيكة تستعصي على الكسر وعلى الانكسار.
13. إن ليس من العقل ولا من الحكمة أن ندخل ميدان المعركة بسلاح واحد بل لا بد من استخدام كل سلاح متاح ومشروع نرهب به عدو الله وعدونا:
• ننتصر بالأخذ بكل أسباب النصر
• ننتصر بدعاء الصالحين وعبادة العابدين، وإخلاص المخلصين، وبركة العلماء الثقات المتقين
• ننتصر بمواكبة العصر في تطور الأسلحة واستراتيجية التخطيط وسُبُل حسم المواجهة
• ننتصر بتأييد المؤيدين على اختلاف توجهاتهم بل وعلى اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم
• ننتصر بمقال بنَّاء، أو بمنشور على مستوى الحدث، أو بتصريح قوي يضع النقاط على حروفها، بدون اللجوء إلى عنترية هوجاء ولا إلى تخذيل أرعن
• ننتصر بصلابة ومتانة البناء الداخلي وبتنوع وقوة العلاقات الخارجية
• ننتصر بحسن توظيف الموارد المتاحة مهما كانت ضئيلة، واستغلال الفرص السانحة مهما كانت ضعيفة
• ننتصر بعدم الاستسلام للتحديات وبعدم الرضوخ للتهديدات
• ننتصر بإيماننا بأننا مجرد ستار ليد القدرة، ولا ننسى في زحمة الأحداث ثوابتنا ولا نتخلى عن مبادئنا
• ننتصر حين نكون صرحاء مع أنفسنا فنحسن تقييم أنفسنا وتقييم عدونا بدون تهويل ولا تهوين ودون أن نصنع لأنفسنا قيودًا وأغلالًا تثبطنا وتستنزف قوانا وتمكِّن العدو من رقابنا
• ننتصر حين نعلم أن أقصى ما يفعله العدو بنا هو أنه ينفذ قدر الله فينا، وقدر الله كائن لا محالة "فمن رَضِيَ فله الرِضا، ومن سَخِطَ فله السُّخْطُ"!
• ننتصر حين نوقن أن جهودنا وتضحياتنا تراكمية لا تضيع هباءً ولا سُدى؛ فالجيل الذي سخر منه البُلهاء السذج عندما بدأت انتفاضة الحجارة في 8 ديسمبر 1987م هو الجيل الذي يقود المقاومة الآن، دعمناهم وافتخرنا بهم صغارًا، ونحني لهم الرؤوس اعترافًا بما يسطرونه من ملاحم كبارًا، وكلنا يقين أن هذا الجيل هو الذي سيذيق شُذاذ الآفاق الملاعين الويلات والحسرات حتى يُطهِّر الأرض من دنسهم
الآلة الإعلامية القوية، والتغطية الإعلامية الموضوعية والشفافة، والترويج الإعلامي الواسع سلاح لا يُستهان به ولا يقل أهمية عن بقية أسلحة المعركة
14. كما علمتنا الأحداث أن الآلة الإعلامية القوية، والتغطية الإعلامية الموضوعية والشفافة، والترويج الإعلامي الواسع سلاح لا يُستهان به ولا يقل أهمية عن بقية أسلحة المعركة.
- إن الإعلام يمثل توثيق عقد إثبات ملكية كي لا يضيع الحق، أو توثيق أدلة اتهام كي لا يفلت الجاني بجريمته.
- والإعلام لا يقل أهمية عن الأذان الذي هو إعلام بدخول وقت الصلاة وإعلام ببدء الصيام وبدء الإفطار.
- لن أكون مُبالغًا إذا قلت إن الإعلام لا يقل أهمية عن النطق بشهادة التوحيد التي هي إعلام بالانتقال من الكفر للإيمان.
- ولن أكون مبالغًا كذلك إذا قلت إن من لا يمتلك سلاحًا إعلاميًا مشهودًا له بالكفاءة فالأجدر به ألا يقترب من حلبة الصراع.
- إن الإعلام ليس مجرد كاميرا في يد صاحبها، ولا مجرد ريشة في يد فنان، ولا مجرد قلم في يد كاتب، ولا مجرد حلقة داخل استوديو، فالإعلام يفوق ذلك كله ولا يقل أهمية عن الدبابة ولا عن قاذفة الصواريخ وراجمة الطائرات.15. علينا أن نوقن أن سلعة الله الغالية تحتاج إلى تضحية عزيزة وصبر لا نهاية له، وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي ﷺ قال: "أَلا أُنَبِّئُكُمْ بليلةٍ أفضلَ من ليلةِ القدرِ؟ حارِسُ الحَرَسِ في أرضِ خَوْفٍ لعلَّهُ ألَّا يرجعَ إلى أهلِهِ" (أخرجه النسائي)، ونوقن أن الحذر - وإن كان مُهمًا - إلا أنه لا يُنجي من القدر، وأن الجبان يموت كل يوم مائة مرة، وأنه "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ "
الدماء الغالية التي قدمتموها أيها الأبطال المغاوير ما هي إلا حجامة في جسد الأمة كي تسترد عافيتها من جديد
أخيرًا أقول:
إن الدماء الغالية التي قدمتموها أيها الأبطال المغاوير ما هي إلا حجامة في جسد الأمة كي تسترد عافيتها من جديد، وإن ذلك كائن لا محالة بإذن الله وفضله وصادق وعده، فلا تبالوا بإرجاف المرجفين ولا بتثبيط المثبطين ولا بتخاذل من عمل العدو على تدجينهم وإخصائهم حتى إذا جاء اليوم الفصل لا ترى الأمة منهم إلا انبطاحًا، ولا تسمع لهم صوتًا ولا همسًا.
وأقول:
في زحمة الأحداث لا يجب علينا أن ننسى قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ۚ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ۚ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64]، ولا ننسى قول النبي ﷺ: "لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ" (صحيح مسلم)
اللهم إنا نستودعتُك فلسطين وأهلَها، كبارَها وصغارَها، رجالَها ونساءَها، شبابَها وبناتِها، أرضَها وسماءَها، فاحفظهم يا ربنا من كل سوء إنك على كل شيء قدير