كلّ المسلمين كانوا يتوقّعون أن يصل الإجرام الصّهيونيّ بأهل غزّة إلى هذا الحدّ الذي وصل إليه وأكثر، فهذه سيرة اليهود لا يحيدون عنها في سفك الدّماء وإشاعة الفساد في الأرض واللّجوء إلى أكثر الأساليب خسّة ونذالة في الحروب.. لكنّ أكثر المسلمين تشاؤما ما كان يتوقّع أن يصل الخذلان الإسلاميّ لأهل القطاع إلى هذا الدّرك!
لقد اختصرت أمّ أردنية حالة الخيانة التي وصلت إليها بعض دول المسلمين، حين صرخت في وجه من يقفون لحماية سفارة الصهاينة في الأردن قائلة: “ماذا تفعلون؟ تحمون سفارة أحقر شعب على وجه الأرض! اتقوا الله، ماذا ستقولون لله يوم القيامة؟ هل ستقولون: كنا ندافع عن سفارة الحقير الإسرائيلي الذي يقتل أطفالنا ويقول عنّا: حيوانات بشرية؟!”.
صرخات الأمّ الأردنية تنطق بما يختلج في نفوس ملياري مسلم حول العالم تجاه هذه الخيانة التي قلّ أن يعرف التاريخ لها مثيلا.. العدوّ يستعرض عضلاته من وراء جدر على مليوني مسلم محاصر، ويتفنّن في قتل الأبرياء وتفتيت أجساد الأطفال إلى أشلاء، وبعض دول المسلمين تصرّ على حماية العلم الصهيونيّ المرفوع على أراضيها.. إذا لم تكن لهؤلاء أخلاق الإسلام! فأين هم من أخلاق العروبة التي جعلوها دينا؟ لقد سجّل التاريخ أنّ عرب الجاهلية عندما استجار بهم رجل مظلوم انتهب ماله ومتاعه بمكّة، في ذي القعدة من العام 590م، تداعوا لنصرته وعقدوا اجتماعا عاجلا في دار عبد الله بن جدعان التيمي أحد سادات قريش، تعاهد فيه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة على أن لا يُظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته.. تداعوا لنصرة رجل أجنبيّ نزل بديارهم، ونصروه ضدّ من ظلمه منهم.. أما بقي في عرب اليوم صاحب نخوة يحذو حذو زهير بن أبي أمية، حين قال لمّا طال الحصار على بني هاشم في شعب أبي طالب بمكّة: “يا أهل مكة أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة”؟
خزي ما بعده خزي هذا الذي يسبح فيه عرب اليوم الذين يصرّون على مدّ جسور التعاون مع عدوّ محتلّ ظلم إخوة لهم في “العروبة”؟ وكأنّه ما تنامت إلى أسماعهم أخبار ارتقاء أكثر من 3200 شهيدٍ معظمهم من الأطفال والنساء جراء العدوان المتواصل على غزة! أو ما سمعوا عن دكّ مستشفى المعمداني في غزّة وارتقاء 500 شهيد! أو ما عاينت أبصارهم صور الجثث المفتتة والدّماء التي صبغت الأرض باللّون الأحمر!
يا دار غزَّة بالدماء تكلَّمي * وعِمي صباحاً دار غزَّة واسلمي
العلج فيك غدا يمور بجيشه * قمعاً وتقتيلاً وســفكاً للــدمِ
إخوان خنزيرٍ وقردٍ وصفهم * قد جاء في آي الكتاب المُحكمِ
يا ويح قلبي من ضميرٍ نائمٍ * في أمّة مُلئت بقومٍ نوَّمِ!
عزاء الأمّة سيظلّ واحدا أنّ العليّ الأعلى سبحانه قضى أن تبقى الثلة المرابطة ثابتة، وضمن أنه لن تستطيع قوة في العالم أن تقضي على الطائفة المنصورة التي كتب الله لها أن تظلّ ظاهرة لا يضرّها من خالفها أو خذلها حتّى يأتي أمر الله وهي كذلك.. رغم الدّماء والأشلاء، ورغم الحصار الخانق، ستحيا غزّة من جديد، ولن تمضي سوى سنوات حتى تعود المقاومة كما كانت وأقوى، وستظلّ تفاجئ اليهود والعالم بعملياتها التي تبثّ الرعب في قلوب المحتلين الغاصبين.
لقد سجّل التاريخ أنّه حينما حاصر المشركون في مكّة القلّة المسلمة التي كانت مع النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلّم- في شعب أبي طالب، في السّنة السابعة من البعثة، حتّى كانت تُسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من شدة وألم الجوع، وحتى اضطر المحاصَرون إلى أكل أوراق الشجر، بل وإلى أكل الجلود.. لكنّها لم تمض سوى ثمان سنوات حتّى كانت رؤوس الشّرك تلقى في القليب يوم بدر.
في القرن 13م، اجتاح المغول بقيادة جينكز خان، العالم الإسلامي، وارتكبوا مذابح مروّعة في حقّ المسلمين، وشهدت الأمّة خيانات قاتلة، حتّى ظنّ النّاس أنّ الإسلام لن تقوم له قائمة بعد ذلك.. لكنّها لم تمرّ سوى سنوات قلائل حتّى كانت موقعة عين جالوت بقيادة القائد المظفّر سيف الدّين قطز، هذا القائد الذي مهّد لبطولاته بتوحيد الصفّ الداخلي وشحذ الهمم وإظهار عدم رغبته في السلطة واستعداده للتنازل عنها بعد دحر الاحتلال المغوليّ.. ووجّه كلامه إلى الأمراء بكلّ حزم، فقال: “يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزو كارهون، أنا متوجه لألقى المغول بنفسي، فمن اختار الجهاد فليصحبني، ومن لم يختر ذلك فليرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين”.. كلمات ألهبت الحماس في قلوب الأمراء، قبل أن يستدعي القائد قطز العلماء لأخذ رأيهم في فرض ضريبة على النّاس لتجهيز الجيش، لكنّ سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام عارضه، وأشار عليه بأن يبدأ بأموال الأمراء والقادة أولا، فإذا لم تف فعندئذ تفرض الضريبة على عامّة المسلمين.. انصاع قطز لقول سلطان العلماء واستطاع أن يجمع 600 ألف دينار، غالبها من أموال القادة والأمراء وحليّ نسائهم ومن زكاة أموال التجار.. والتقى المسلمون المغول في عين جالوت (نابلس) في 25 رمضان 658هـ، وكان القائد قطز يقاتل بنفسه وسط جنده، ودوّت صيحته “وا إسلاماه، وا إسلاماه” التي ألهبت حماس جنوده وجعلتهم ينقضون على المغول انقضاض الأسود، لتنتهي المعركة بنصر تاريخيّ للمسلمين، بعد أن مرّت الأمّة بوضع ما كان أحد يتوقّع أن تقوم منه!
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- الشروق أونلاين الجزائرية