الدين منظومة متكاملة تشمل جوانب الحياة كلها، فلا انفصال فيه بين جوانب الحياة، فقد جاءت شرائع الله - جل شأنه - لتنظم حياة الفرد الذي هو عماد المجتمع.
فتزكيه من الداخل لتنساق جوارحه وتنضبط سلوكياته لهذه التزكية، ففرضت عليه من الفرائض ما تسمو به نفسه وتطهر به روحه ويصح ويُشفَى قلبُه، فيخرج لنا الفرد السوي في نفسه أولًا وفي تعاملاته مع ربه ومع غيره ثانيًا.
لذا جاءت العبادات لتشمل كل مناحي الحياة فثمة عباداتٌ بينك وبين ربك قد لا يطلع عليها بشر، وعبادات في البيئة المحيطة بك كتعاملك مع الشجر والحجر والطير وما إلى ذلك، وعبادات تضبط فيها تعاملك مع الآخرين من بني جنسك سواء منهم من آمن فكان أخًا لك في الإيمان أو من كفر فكان أخًا لك في الإنسانية.
ولكل مما سبق ضوابط ومعايير وفق شرع الله وليس وفق معايير النفس وهواها.
العبادات إذا خرجت عن معناها وانفصلت عن ثمارها المرجوّة فلن تحقق الغاية التي شرعت من أجلها، بل لا عجب إن رأيت نتيجة عكسية في المجتمع مثل التردي في دركات الانحطاط وانتشار الجاهلية بين الناس وانتشار الفتن
لذا لو تأملت وتدبرت العبادات التي فرضها الله على عباده لوجدتها ترتبط بغايات جليلة نبيلة، فليست الغاية منها حركاتٍ وطقوسًا تؤدى في مكان محدد في زمان معين ثم تنتهي في وقتها فلا أثر يتبعها، كلا بل لكل عبادة طبيعتها التي تؤتي الثمرة المرجوّة منها؛ فمن العبادات مثلًا ما يؤديها الناس فرادى ومنها ما يؤدى جماعات ومنها ما يؤدى في مكان معين ومنها ما تكون حرًا في زمانه ومكانه، وما كان لذلك أن يكون عبثًا والعياذ بالله، بل يظل الإنسان في جو من العبادة ولو كان في سريره نائمًا، وذلك إذا أدى المطلوب منه على الوجه الذي أراده الله.
والعبادات إذا خرجت عن معناها وانفصلت عن ثمارها المرجوّة فلن تحقق الغاية التي شرعت من أجلها، بل لا عجب إن رأيت نتيجة عكسية في المجتمع مثل التردي في دركات الانحطاط وانتشار الجاهلية بين الناس وانتشار الفتن على الرغم من زيادة أعداد المساجد والمعتمرين والحجاج والمصلين والصائمين والحافظين لكتاب الله، فتجد أنّ ذلك غثاء كغثاء السيل، والثمار لا تؤتي أُكلها لا في النفس ولا في المجتمع.
استوقفتني قصة يقال إنها حدثت في زمن النبي سليمان - عليه السلام - إذ يروى أنّ طائرًا جاء إلى بركة ماء ليشرب، لكنه وجد أطفالًا بقربها، فخاف منهم وانتظر حتى غادر الأطفال وابتعدوا، وحين جاء رجل ذو لحيةٍ طويلة إلى البركة، فقال الطير في نفسه: هذا رجل وقور ولا يمكن أن يؤذيني، فنزل إلى البركة ليشرب من الماء، فأخذ الرجل حجرًا ورماه ففقأ عين الطائر.
فذهب الطائر إلى نبي الله سليمان شاكيًا الرجل، فاستدعى النبي ذلك الرجل وسأله: "ألك حاجة بهذا الطائر حتى رميته؟" فقال: لا، عندها أصدر عليه النبي حكمًا بأن تفقأ عينه، غير أنّ الطائر اعترض قائلًا: "يا نبي الله، إنّ عين الرجل لم تؤذني، بل اللحية هي التي خدعتني! لذا أطالب بقص لحيته عقوبة له؛ كي لا يُخدع بها أحد غيري"
لو أَجَلْتَ نظرك فيمن حولك لوجدت أعدادًا مهولة ممن تخدعنا مظاهرهم وسماتهم، لا تكاد تخلو منهم المساجد ويعتلون صهوة المنابر خطباء واعظين، وبرغم كل هذا لا تكاد تجد بيتًا خاليًا من قطيعة الرحم أو التدابر والتنازع
وإذا تأملت هذه القصة - بغض النظر عن صحتها أو ضعفها - فالشاهد هنا هو العبرة منها، وجدت أنها تعكس صورة واقع معاش ومنتشر عندنا بكثرة، فلو أَجَلْتَ نظرك فيمن حولك لوجدت أعدادًا مهولة ممن تخدعنا مظاهرهم وسماتهم، لا تكاد تخلو منهم المساجد ويعتلون صهوة المنابر خطباء واعظين، بل إذا نظرت للأعداد التي تتردد على المساجد ودور القرآن حفظًا وتفسيرًا، والمظهر الخارجي للناس الذي يظهر تمسكهم بدينهم والتزامهم بتعاليمه وأعداد الحُفاظ لكتاب الله الذين تفرزهم المسابقات لوجدت أنّ أعدادهم تفوق أيام الصحابة والتابعين.
وبرغم كل هذا لا تكاد تجد بيتًا خاليًا من قطيعة الرحم أو التدابر والتنازع، وكأنها معارك حامية الوطيس تصبح بحال وتمسي على حال آخر فحبيب الصباح عدو المساء، عقوق للأهل وتقطيع لوشائج الأخوة والصداقة ليصبح إخوان اليوم أعداءَ الغَد، بل ستجد في الصف الواحد من صلاة الجماعة ومجالس القرآن المتدابرين والمتنازعين والأحسن حظًا منهم من لا تجمعه بأخيه المسلم إلا حدود المكان والزمان الذي يجتمعون فيه ساعة المدارسة، وأما خارج هذا المكان والزمان فهم في حلٍّ من أيِّ حقوقٍ أخويّة وكأن أحدًا منهم لا يعرف الآخر.
التمسك بظاهر الشيء من دون التوغل فيه وتركه ينفذ لأعماقك هو أساس كبواتنا وسقطاتنا
ويظل السؤال قائمًا: لماذا كل هذا السقوط إلى الدرك الأسفل؟!
والجواب تمامًا - كما في قصة العصفور - أن التمسك بظاهر الشيء من دون التوغل فيه وتركه ينفذ لأعماقك هو أساس كبواتنا وسقطاتنا، ولو تدبرت حال الصحابة الكرام وهم أفضل منا مع حرصهم على خدمة القرآن والتمسك فيه إلا أن الواحد منهم لا يتجاوز حفظ العشر آيات حتى يعمل بها ويتخلق بأخلاقها فتجده وكأنه قرآن يمشي على الأرض، فعن عثمان وابن مسعود وأُبيّ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل فيعلمنا القرآن والعمل" [تفسير القرطبي]
فليست العبرة بعدد ركعاتك التي تصليها ومسبحتك التي تلازمك وحجابك الذي ترتديه ولحيتك التي أطلقتها، نعم إن من بينها فرائض ومن بينها سنن ولا نقلل من شأنها أو قيمتها، إنما نتساءل: "أي أثر لصلاتك التي برغم حرصك عليها إلا أنها لم تنهَكَ عن الفاحشة والمنكر؟! أين صيامك وحرصك على النافلة وكأنها فرض إلا أنك قاطع لرحمك؟! أين قرآنك المحفوظة حروفه في صدرك إلا أنك بعيد كل البعد عن العمل بأحكامه؟! بل وعاق لوالديك إذ صارت (أف) في كل إجابة منك لندائهما، أين دروس ودورات التزكية وقد أُتخمت سمنة، وجارك يبيت جائعًا لا يكاد يجد قوت يوم لعياله؟!"
تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة" [صحيح مسلم]
مشكلتنا التي بُلينا بها هي تركيزنا على الكم بدون النوع والمظهر بدون الجوهر، فلن نحقق التوازن والفلاح في حياتنا وآخرتنا إلا بحال واحدة وهي أن تكون مظاهرنا انعكاسًا لجوهرنا وما وقر في قلوبنا
وورد في البخاري بصيغة: "عن سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسمًا، أتاه ذو الخويصرة (وهو رجل من بني تميم) فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحابًا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"
وانظر لأهمية العمل بما تحفظ وتعلم، إذ يقول نبيك الأكرم: "يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما" [صحيح مسلم]
فعن الحسن قال: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ولم يتأولوا الأمر من قبل أوله وقال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وما تدبروا آيته: اتباعه والله بعلمه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأت القرآن كله فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نفس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة متى كانت القراءة مثل هذا لا كثر الله في الناس مثل هؤلاء" [ابن المبارك: الزهد]
ما شُرعت لنا العبادات إلا لتسمو بها أرواحنا وتتزكى أنفسنا وتطهر قلوبنا، فيظهر أثرها جليًّا على مجتمعاتنا فنبرأ بها من أمراض طال تفشيها في المجتمع
وتأمل حديث نبيّك الأكرم: "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لكي يقال جريء، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العِلمَ وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، وقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" [صحيح مسلم]
النصوص السابقة نماذج من كثير تركز على أهمية العمل وترجمته على سلوكياتنا، فمشكلتنا التي بُلينا بها هي تركيزنا على الكم بدون النوع والمظهر بدون الجوهر، فلن نحقق التوازن والفلاح في حياتنا وآخرتنا إلا بحال واحدة وهي أن تكون مظاهرنا انعكاسًا لجوهرنا وما وقر في قلوبنا، وقف طويلًا متدبرًا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" [صحيح البخاري]
فما شُرعت لنا العبادات إلا لتسمو بها أرواحنا وتتزكى أنفسنا وتطهر قلوبنا، فيظهر أثرها جليًّا على مجتمعاتنا فنبرأ بها من أمراض طال تفشيها في المجتمع، ولم تفرض علينا لنواريَ بها سوءاتنا ونستتر تحت مظلتها بتردي أخلاقنا وقيمنا.