لن تنسى ذاكرتنا مهما حيينا مشاهد العزة والفخر التي سطّرها أبناء القسام وفصائل المقاومة ضد اليهود الغزاة، فيوم السابع من أكتوبر هو يوم من أيام الله، ضربت فيه أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وأكد أبناء القسام أن المقاومة هي الطريق الوحيد لاسترداد الأرض وتحرير المقدسات، ودحر الغزاة.
وفي خضم نشوة الفرح بقتل المحتلين وسيطرة الأبطال على المغتصبات وإحياء الأمل بالعودة إلى فلسطين من بحرها إلى نهرها، كانت عيوننا تترقب رد الفعل الصهيوني الذي سيفقد عقله ويغطي على جبنه وخوفه وهزيمته بقتل المدنيين والأطفال بطائراته وصواريخه، بدلاً من المواجهة وجهاً لوجه والنزول إلى الميدان.
وكان ما توقعه الجميع، آلاف الأطنان من الصواريخ والمتفجرات تلقى على المدنيين العزّل لتهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وتفتك بأرواح الأطفال والنساء والعزّل، ناهيك عن الحصار الخانق فلا ماء ولا كهرباء ولا طعام ولا حتى أدوية في انتهاك صارخ للقوانين الدولية، والأدهى والأمر أنها لاقت تأييداً من أغلب الدول في تجاهل لإنسانيتنا وحقوقنا المسلوبة منذ أكثر من 75 عاماً.
ويزيد الطين بلة، إرسال أمريكا حاملتي طائرات لدعم الصهاينة، وإرسال بعض الدول الغربية أسلحة ومعدات، في حين تعجز دولنا المسلمة عن إرسال شاحنة أدوية، أو حتى لتراً من الماء تروي فيه ظمأ أهل غزة، أو كسرة خبز تدعم فيه صمود أطفالهم في هذه الحرب.
هذا المشهد البالغ التعقيد، أصاب البعض بالهلع والجزع، وساور الشك قلوبهم وبت ترى إشاعات المرجفين وتخذيل المخذلين هنا وهناك، وأن أهل غزة وعلى رأسهم حركة حماس قد حفروا قبورهم بأيديهم وأن مسألة إبادتهم باتت مسألة وقت، فأين نحن من قوة أمريكا، وفارق التسليح مع الكيان الصهيوني المدعوم من العالم بما فيها بعض الدول العربية!
البوصلة القرآن..
إن القرآن الكريم ما نزل إلا ليكون هادياً ومنيراً للطريق، ولا يمكن أن نتعامل مع الأحداث المختلفة بمعزل عن تعالميه وهديه ، فالنصر يتنزل من الله حتماً إن قمنا بأسبابه، قال تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد:7] ونصر الله تعالى يكون بإعلاء كلمته ونصر دينه والأخذ بالأسباب، ثم التوكل على الله والدعاء لإنزال النصر.ويقول الله عز وجل {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} [آل عمران: 126] ويقول {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران:160].
المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أن القرآن الكريم قد رسم لعباده المؤمنين معالم النصر والتمكين، وهذه ليست محصورة في زمن دون آخر، فهذه سنن إلهية تحتاج إلى من يتدبرها ويسير على خطاها ، فإن حققها كان النصر أمراً حتمياً لا جدال فيه، قال تعالى:{وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} [الروم:47] وهو ما يدل على اللزوم والتحقق بلا أي شك.وهذا النصر يتطلب من المسلم السعي لتحقيقه، فكيف إذا كان موجهاً ضد أخس الخلق الذين قتلوا النساء والأطفال، ودنسوا المقدسات وانتهكوا الحرمات!
إن الله لا يقبل أن يكون المسلم جباناً، يرى حرمات الله تنتهك على عينه فيسكت ويجبن، بل إن الله حفّز المؤمنين على الجهاد ووعدهم بالعديد من الفوائد والمكاسب
إن الله لا يقبل أن يكون المسلم جباناً، يرى حرمات الله تنتهك على عينه فيسكت ويجبن، بل إن الله حفّز المؤمنين على الجهاد ووعدهم بالعديد من الفوائد والمكاسب، قال تعالى: { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم} [التوبة: 14-15].
لقد طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يقوموا بالقتال، ووعدهم عز وجل بالفوائد التالية:
1. تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين.
2. خزي المشركين وهو يستلزم عزة المسلمين.
3. نصر المسلمين، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم.
4. شفاء صدور فريق من المؤمنين، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلهم، وتستلزم حرج صدور أعدائهم.
5. إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلهم، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم.
إن القرآن الكريم ليس كتاب تلاوة وحفظ فحسب، بل يشكل منهج حياة نحدد في ضوئه مواقفنا ونضبط بنصوصه مشاعرنا فلا يأس ولا قنوط مع بشائر القرآن ووعد الله عز وجل بنصر عباده المؤمنين، إن هم نصروه في أنفسهم، وقاموا بالجهاد بعد إعداد العدة.
لا يأس ولا قنوط مع بشائر القرآن ووعد الله عز وجل بنصر عباده المؤمنين، إن هم نصروه في أنفسهم، وقاموا بالجهاد بعد إعداد العدة
اليقين بالنصر .. منهج النبي ﷺ
لقد كان النبي ﷺ وهو خير معلم لنا، دائماً ما يستبشر بالنصر في أحلك الظروف وأشدها، بل كان دائماً ما يبث اليقين بالنصر من الله وتجنب اليأس والقنوط، وحياته زاخرة مليئة بذلك، لكن نورد بعضاً منها:
1- أخرج البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه: - شكونا إلى رسول الله ﷺ وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
2- وفي هجرته إلى المدينة، ورجال قريش واقفون على باب الغار، يقول أبو بكر رضي الله عنه: - قلت للنبي ﷺ ونحن في الغار لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. (رواه الشيخان).
3- وفي غزوة بدر خرج النبي ﷺ من خيمته بعد أن ألح بالدعاء بأن ينصر جيش المسلمين وهو يردد قوله تعالى: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} (رواه البخاري).
4- وأخرج أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله ﷺ بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله ﷺ، فجاء فأخذ المعول ثم قال: بسم الله، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا).
واجبنا في بث روح النصر
بلا شك أن قلوبنا تتفطر حزناً على إخواننا الذين يصطفيهم الله بالشهادة في غزة العزة، فمشاهد قتل أحبابنا وهدم البيوت تقتلنا حزناً خصوصاً في ظل حالة العجز التي يعيشها كثير من المسلمين الذين ابتلوا بأنظمة تحول بينهم وبين نصرة إخوانهم في الدين. لكن لا يجوز أن نكتفي بمتابعة الأخبار والتحسر على إخواننا، فهم لا يريدونه، بل نحتاج إلى أن نشد من عزائم من هم حولنا، ونبث فيهم روح النصر، وهذا يتحقق بإيصال عدد من المفاهيم:
1- كل ما يجري من أحداث وقتل هو تمحيص من الله لعباده المؤمنين، فبه يرتفع شأن بعضهم، وبه ينكشف زيف البعض الآخر ، قال تعالى: { أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة ۚ والله خبير بما تعملون} [التوبة:16]. وقد كشفت الأحداث الماضية الكثير من الزيف بل وكشف اللثام عن كثير من الأشخاص والمواقف، وما هذه إلا تكملة لتكون الأمة على معرفة بأحوال أفرادها.
2- لا يوجد نصر دون ثمن، وهذا الثمن غالٍ جداً لأن فيه تضحية بالنفوس والأموال، وهذا كله امتحان للأمة، ليصطفيها الله عز وجل، قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ۗ وبشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ۖ وأولئك هم المهتدون} [البقرة:155-157]. ولنتأمل في أحوال الدول التي تحررت من الاستعمار والاحتلال، سواء كانت كافرة أو مؤمنة كم قدمت من تضحيات في سبيل التحرر، فهذه سنة إلهية في البشر جميعهم.
لا يوجد نصر دون ثمن، وهذا الثمن غالٍ جداً لأن فيه تضحية بالنفوس والأموال، وهذا كله امتحان للأمة، ليصطفيها الله عز وجل
3- النصر لا يتحقق في يوم وليلة، بل يحتاج إلى مراحل يتخللها مواقع ومعارك، وكلها تحقق انتصارات جزئية في سبيل الوصول إلى الانتصار الكبير، وتخيل معي أن فتح مكة في زمن النبي ﷺ سبقها غزوات منها ما انتصر فيها المسلمون كبدر ومنها ما خسر فيها المسلمون ما يقارب المئة من الصحابة على رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. ولهذا جميع الأحداث التي وقعت على هذه الأرض المباركة بدءاً من ثورة القسام، مروراً بانتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى، انتهاء بطوفان الأقصى كلها محطات وانتصارات جزئية تقودنا في النهاية إلى الانتصار الكبير .
النصر لا يتحقق في يوم وليلة، بل يحتاج إلى مراحل يتخللها مواقع ومعارك، وكلها تحقق انتصارات جزئية في سبيل الوصول إلى الانتصار الكبير
4- الشهادة اصطفاء، وليست خسارة، وكيف تكون الشهادة خسارة والله عز وجل اختارهم عن غيرهم ، قال تعالى: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ۚ وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء ۗ والله لا يحب الظالمين} [آل عمران:140]. بل إن الشهداء هم الوحيدون الذين وصفهم الله بأنهم أحياء في قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ۚ بل أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران:169]. فكلنا سنذوق الموت لا محالة، إما بمرض أو بحادث أو غير ذلك، فكيف إذا مات أناس على يد عدوهم ليكونوا وقوداً لاستمرار الثورة والمقاومة. صحيح أن الخسارة والفقد مؤلم بلا شك، لكن ما عند الله خير وأبقى فكيف إذا كان ذلك الثواب عظيماً!
5- كل مظاهر القتل والهدم الجارية الآن تعكس انهزامية الاحتلال وتغيّر حاله وقربه من الزوال ، فشتان بين حاله الآن وبين حاله قبل عشرات السنوات، بل وقارن بين قوة المقاومة في انتفاضة الحجارة، وبين قوتها الآن، وما هي إلا فترة وجيزة ويندحر هذا الاحتلال المجرم من أرضنا بإذن الله.
أسأل الله عز وجل أن ينصر إخواننا، ويسدد رميهم، ويثبتهم، ويتقبل شهداءهم، ويشفي جرحاهم، ويهزم أعداءهم إنه سميع مجيب.