تُذهلنا التغيرات والتقلبات المفاجئة في كل شيء حولنا على هذه الأرض، فلا يكاد يمر يوم عليك إلا وثمة جديد على الساحة سواء في نفس المرء أو المناخ أو جغرافية الأرض ونظامها من حر وبرد، اضطراب وسكون.
وطبيعة البشر أنهم إذا ألفوا وضعًا ما صار عندهم الأصل وما سواه استثناء، فكأن من عاش صحيحًا معافىً في صحته وسربه ولقمة عيشه وغناه وقد أَلِفَ هذا الحال صار من المستحيل عنده أن يرى غير هذا الحال بل تجده سخط وتذمر من أدنى تغيير يطرأ عليه وينزل به عن الحد المألوف عنده.
ويظل ينسى الإنسان أنه مخلوق في هذا الكون متصرف فيه، وأنه وقلبه بين يدي الله يقلبه كيفما شاء ومتى شاء، ولو نظرت في هذه السنوات القليلة الماضية لأدركت تسارع الأزمان والأحوال وطروء ظروف عليها أصابت بعضنا بالهلع والبعض الآخر أشعلت الشيب في رأسه، حروبٌ ودمارٌ، انهيار أنظمة وعلو أخرى، استقرار مناخ وجنوح في بلد آخر، نيران تأكل الغابات وتودي بالثروة الحيوانية والغذائية في بلاد، وبلاد أخرى سيول تجرف كل ما يعترضها، بلاد تزداد حرارتها ويتأخر عليها موسم الشتاء فيُصب عليها من حرارة الشمس وكأنها حمم تسكب على الأرض وكل ما فيها في حين بقعة أخرى لا تبعد عن الأولى كثيرًا، تقصم البرودة ظهور ساكنيها، هزات وزلازل تنذر قومًا يرون في ذلك آيات وعبر، وقومًا آخرين يرون في ذلك استخفافًا وهزارًا تجاوزوا فيه حدود الأدب مع المُسبب لكل ما يحدث في هذا الكون، الذي ما هو إلا ذرة في ملكوت الله.
تزامنًا مع تغيرات المُناخ والطبيعة من زلازل وفيضانات لا بد أن نقف وقفات مع كل ما يجري حولنا؛ لنعرف كيف نحافظ على اتزان الإنسان فينا، ليؤدي ما عليه من مسؤولية ملقاة على عاتقه وغاية من أجلها خُلق حتى آخر نفس له
ثم يسأل بعض من يخالط الإيمان قلوبهم: "هل هذا الذي نمر به بداية النهاية واقتراب الموعد الحق؟!" في مقابل ذلك يرى البعض أنّ هذه دورة الأحياء والحياة وتقلب الطبيعة، وكأنّ الطبيعة والحياة تحرك نفسها بنفسها، برغم ما يعايشون في أنفسهم من ضعف وقلة حيلة؛ فلو قدر الله لأحدهم أن يختل عصب يده لثانية لعجز عن تحريكها ولأدرك أنه لو واجه نفسه بحقيقة وعقل متفكر أنّ سببًا شلّ قدرته وأثر في حركته، فكيف يرى كل ما يحدث من أحداث إنما هو عمل الطبيعة بنفسها؟!
ثمّ يسألك آخر هل نحن على موعد النهاية فتنعدم الحياة ويزول البشر؟! وهذه أسئلة كثيرًا ممن نسمعها من الناس يلقونها على طلاب ومشايخ العلوم الشرعية.
وبناءً على ما سبق وتزامنًا مع تغيرات المُناخ والطبيعة من زلازل وفيضانات لا بد أن نقف وقفات مع كل ما يجري حولنا؛ لنعرف كيف نحافظ على اتزان الإنسان فينا، ليؤدي ما عليه من مسؤولية ملقاة على عاتقه وغاية من أجلها خُلق حتى آخر نفس له.
وتأمل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة: "لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسَنة تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، فتنقص لذلك أموالكم، وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموتُ ذراريكم وأولادكم، وجُدوب تحدُث، فتنقص لها ثماركم، كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب" [تفسير الطبري]
ثمّ تدبر قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} [البقرة: 214]، ويفسر ابن كثير هذه الآية: "أ{َمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ}: أي قبل أن تُبتَلوا وتُختَبروا وتُمتَحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم؛ ولهذا قال: {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ} وهي: الأمراض والأسقام، والآلام ، والمصائب والنوائب" [مختصر المنهاج]
كلّ ما نمر به من مصائب إنما هي من سنن الله في كونه تذكرنا بضعف حيلتنا وقوّتنا وحيرة أمرنا وأننا لا نملك لأنفسنا نفعًا ولا ضرًا، وأنّه لا بد لنا من وقفات
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض" [صحيح البخاري]، وعلق ابن حجر على هذا الحديث قائلًا: "قوله باب ما قيل في الزلازل والآيات قيل لما كان هبوب الريح الشديدة يوجب التخوف المفضي إلى الخشوع والإنابة كانت الزلزلة ونحوها من الآيات أولى بذلك؛ لا سيما وقد نص في الخبر على أن أكثر الزلازل من أشراط الساعة" [فتح الباري]
فما سبق من نصوص شرعية تبين لنا أن كلّ ما نمر به من مصائب إنما هي من سنن الله في كونه، وأنها آية من آيات الله الجليّة على مظاهر قدرته، تذكرنا بضعف حيلتنا وقوّتنا وحيرة أمرنا وأننا لا نملك لأنفسنا نفعًا ولا ضرًا، وأنّه لا بد لنا من وقفات مع هذه السنن الماضية فينا:
أولًا/ أنّ كثرة الزلازل والأمور العظام لهي من علامات الساعة
لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض" [صحيح البخاري]
وقوله عليه السلام: "تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول من صعق تلكم الغداة فيقولون صعق فلان وفلان" [مسند الإمام أحمد بن حنبل]
ثانيًا/ تذكرنا هذه الظواهر بأحداث يوم القيامة العظيمة كزلزلة الأرض ونسف الجبال
لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105]، وقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]
الإنسان مُطالب أن يسعى ويعمل وكأنه يعيش أبد الدهر، وهل حُجب موعد موت الإنسان وانقطاع عمله إلا ليظل دؤوبًا في عمله، ساعيًا في مناكب الأرض، يُعمرها ويعمل لآخرته بدون يأس أو قنوط
ما موقف المسلم من هذه السنن والابتلاءات؟!
أولًا/ التسليم والصبر واللجوء إلى الله
{فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 34]
ثانيًا/ الإنابة والتوبة إلى الله
فمخالفة أمر الله وانتشار المفاسد والمعاصي ما كان ليمر مرور الكرام دون نذير أو رادع، {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]
ثالثًا/ الخوف من الله ومن نزول غضبه وعقابه بنا
لقوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 97]، وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]، وعن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عرف ذلك في وجهه فقلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية. فقال: يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا" [سنن أبي داوود]
رابعًا/ أن يكون هذا الخوف حاملًا على العمل والاجتهاد في التقرب إلى الله لا الخوف الذي يقعد عن العمل
فالإنسان - ما دام فيه نَفَس - مُطالب أن يسعى ويعمل وكأنه يعيش أبد الدهر، وهل حُجب موعد موت الإنسان وانقطاع عمله إلا ليظل دؤوبًا في عمله، ساعيًا في مناكب الأرض، يُعمرها ويعمل لآخرته بدون يأس أو قنوط، وتدبر قول نبيّك عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فان استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" [الأدب المفرد]
خامسًا/ المحاولة الجادة في تغيير النفس، والانشغال بتزكيتها وإصلاحها
فانشغال كل فرد بتغيير نفسه وتقويمها وإصلاحها بدوره يؤدي إلى تغيير المجتمع والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11]