إلى إخواننا المجاهدين والمقاومين والمرابطين في غزة الأبية
إنكم أكثر منا علمًا ويقينًا أن اليأس في ديننا قرين الكفر، وفي الأعراف فهو قرين الخيانة، واليأس في كل الأحوال لا يأتي بخير، واليأس إنما يكون في أوقات الشدة والبلاء والابتلاء والحنق والضيق والتضييق، والكل يعلم أنه لا شدة ولا ضيق ولا تضييق أكبر مما تمرون به الآن.
يا أهل غزة الأبية
إنكم تعرفون أنه ما من دعوة صادقة، ورسالة سامية - منذ أن بعث الله تعالى الرسل الكرام، وإلى يومنا هذا - إلا ومرَّت بأوقات من الشدة والضيق والتضييق ما لم يتحملهم إلا من كان صحيح العقيدة، سليم العبادة، صادق الإيمان.
يا أهل غزة الأبية
إنكم تعلمون يقينًا أن أكثر ما يوده عدو الله وعدوكم هو أن يتسرب اليأس إلى قلوبكم، وتنسوا قضيتكم العادلة وتتخلوا عن عقيدتكم الراسخة فتكونوا سواء!
من عادة أصحاب الدعوات في أوقات الشدة هذه أنهم يستأنسون بكتاب الله تعالى؛ لكي يجدوا بين طيَّاته مَخرجًا، ولكن في بعض الأحيان يتم الاستشهاد ببعض الآيات على وجه غير الوجه الصحيح لها
يا أهل غزة الأبية
إنه من المعروف أن من عادة أصحاب الدعوات في أوقات الشدة هذه أنهم يستأنسون بكتاب الله تعالى؛ لكي يجدوا بين طيَّاته مَخرجًا - وهو أهل لذلك، وهم أهل لذلك - ولكن في بعض الأحيان يتم الاستشهاد ببعض الآيات على وجه غير الوجه الصحيح لها.
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110] إن الفعل "اسْتَيْأَسَ" في الآية الكريمة أحد مشتقات الفعل "يأس" ومن المعروف عند أرباب اللغة أن قوة مبنى الكلمة من قوة معناها.
والآية الكريمة التي بين أيدينا {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ...} قد يستشهد بها بعض المستشهدين ويضعونها في غير موضعها، وخاصة إذا حمِي الوطيس واشتدت المواجهة بين الحق والباطل وكان للباطل دولة.
يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، ويحل بأس الله بالمجرمين، مُدمرًا ماحِقًا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير
أولًا/ مُجمل ما ورد في تفسير قوله تعالى {اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}
الحقيقة أن تفسير هذه الآية له وجوه عِدَّة، لذلك آثرت أن أضع مُجمل هذه التفاسير بين يدي إخواننا؛ كي يكون فهم الآية واضحًا لا لبس فيه، ويكونون على بيِّنة لا غموض فيها، وكي لا يلتبس عليهم الفهم فيُسيؤوا التطبيق أو يسيؤوا الظن، والعياذ بالله، قال الإمام القرطبي رحمه الله: "... وهذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عمَّا لا يليق بهم، وهذا الباب عظيم، وخطره جسيم، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم.
- قوله تعالى: "اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي: يئِسوا من إيمان قومهم وأيقنوا أن قومهم كذَّبوهم.
- قوله تعالى: "اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي: خشوا تحول من آمن من قومهم ونكوصِهم بعد إيمانهم.
- قوله تعالى: "اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي: ظن قوم الرسل أن الرسل قد كَذَبوا (بفتح الكاف والذال مُخففًا)، لما رأوا من تفضل الله - عز وجل - في تأخير العذاب.
- قوله تعالى: "اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي: قرُب أن يتسلل ذلك إلى نفوس الرسل (بدون ترجمته إلى أقوال أو أفعال)
- قوله تعالى: "اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي: أن الرسل كانت تخاف بُعد تحقيق ما وعدهم الله به من النصر والتمكين، فهم يُوقنون بأن وعد الله تعالى كائن لا محالة ولكن الخوف كان من أن يطول عليهم الابتلاء.
- قوله تعالى: "اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" أي: ظن الرسل أن الله تعالى أخلف ما وعدهم إياه، بالانتصار على الباطل وبالتمكينح وذلك لتطاول الزمن أو لانتفاش الباطل وأهله؛ فهم ربما حدَّثوا أنفسهم بشيء من ذلك من دون ترجمته إلى أقوال أو أفعال، (وهذا أضعف التأويلات)؛ لأن الرسل مُنزَّهون عن مثل هذه الأشياء.
لو كان النصر رخيصًا لقام في كل يوم دَعِيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئًا، أو تكلفه القليل، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثًا ولا لعبًا
عن عروة بن الزبير عَنْ أم المؤمنين عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ له وهو يَسْأَلُها عن قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: {حتّى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قالَ: "قُلتُ: أكُذِبُوا أمْ كُذِّبُوا؟ قالَتْ عَائِشَةُ: كُذِّبُوا قُلتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَما هو بالظَّنِّ؟ قالَتْ: أجَلْ لَعَمْرِي لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بذلكَ، فَقُلتُ لَهَا: وظَنُّوا أنَّهُمْ قدْ كُذِبُوا، قالَتْ: معاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذلكَ برَبِّهَا قُلتُ: فَما هذِه الآيَةُ؟ قالَتْ: هُمْ أتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا برَبِّهِمْ، وصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عليهمُ البَلَاءُ، واسْتَأْخَرَ عنْهمُ النَّصْرُ حتَّى إذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِن قَوْمِهِمْ، وظَنَّتِ الرُّسُلُ أنَّ أتْبَاعَهُمْ قدْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذلكَ" (صحيح البخاري)
ورد في "مختصر تفسير ابن كثير" للصابوني: "سأل فتى من قريش سعيد بن جبير قال: أخبرنا أبا عبد اللّه كيف هذا الحرف: فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قال: نعم، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المُرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، فقال الضحاك بن مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجلًا يدعى إلى علم فيتلكأ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلًا (أخرجه ابن جرير الطبري)، وروى ابن جرير أيضًا من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال: فرَّج اللّه عنك كما فرَّجت عني.
وعن تميم بن حزم، قال: سمعت عبد اللّه بن مسعود يقول في هذه الآية: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف، فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس واللّه أعلم.
قال الأستاذ "سيد قطب" رحمه الله: "تلك سُنة الله في الدعوات، لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس، يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعَسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون، ويحل بأس الله بالمجرمين، مُدمرًا ماحِقًا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير؛ ذلك كي لا يكون النصر رخيصًا فتكون الدعوات هزلًا، فلو كان النصر رخيصًا لقام في كل يوم دَعِيٌّ بدعوة لا تكلفه شيئًا، أو تكلفه القليل، ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثًا ولا لعبًا" إلى أن قال: "إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل، إما أن تربح ربحًا مُعينًا مُحددًا في هذه الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحًا وأيسر حصيلة!
كل فرد يظن ظنًا يتوافق مع ما في قلبه من إيمان، ومع ما في عقله من فهم لطبيعة الطريق وطبيعة المرحلة وطبيعة المواجهة وهدفها
ثانيًا/ ما ورد في قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)} [الأحزاب]
جاء في تفسير الطبري: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، أي: "وتظنون بالله الظنونَ الكاذبة، وذلك كظنّ من ظنّ منهم أن رسول الله ﷺ يُغلب، وأن ما وعده الله من النصر أن لا يكون، ونحو ذلك من ظنونهم الكاذبة التي ظنها من ظنّ ممن كان مع رسول الله ﷺ في عسكره.
وفيه قال: "عن الحسن {وَتَظُنُّونَ باللَّه الظُّنُونا} قال: ظنونًا مختلفة: ظنّ المنافقون أن محمدًا وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حقّ، أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وجاء في تفسير السعدي: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، أي: الظنون السيئة، أن اللّه لا ينصر دينه، ولا يتم كلمته.
وجاء في تفسير البغوي: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، أي: اختلفت الظنون; فظن المنافقون استئصال محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي عنهم، وظن المؤمنون النصر والظفر لهم.
وجاء في تفسير ابن كثير: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، قال ابن جرير: ظن بعض من كان مع رسول الله ﷺ أن الدائرة على المؤمنين، وأن الله سيفعل ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}: "ظن المؤمنون كلّ ظن، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير (أخو بني عمرو بن عوف): كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط"
وجاء في تفسير القرطبي في قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}: وقيل: "هو خطاب للمنافقين، أي: قلتم هلك محمد وأصحابه"
بعد استعراض ما جاء في التفاسير المذكورة نقول بأن كلمة (الظُّنُونَا) وردت بصيغة الجمع فكل فرد يظن ظنًا يتوافق مع ما في قلبه من إيمان، ومع ما في عقله من فهم لطبيعة الطريق وطبيعة المرحلة وطبيعة المواجهة وهدفها.
عَنْ وَاثِلَةَ بْنَ الأسْقَعِ - رضي الله عنه - أن النبي ﷺ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "أنا عندَ ظنِّ عبدي بي فلْيظُنَّ بي ما شاء" (صحيح ابن حبان)
الذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله - عز وجل - الظن إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "والذي لا إله غيرُه ما أُعطي عبدٌ مؤمن شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله - عز وجل - الظن إلا أعطاه الله - عز وجل - ظنَّه؛ ذلك بأنَّ الخيرَ في يده" (رواه ابن أبي الدنيا)
ختامًا أقول
لا يفوتنا - ونحن في هذا المقام - أن نذكِّر إخواننا المجاهدين والمقاومين والمرابطين في غزة الأبية بقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} [الحديد]
مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا: أي: من قبل أن نخلق النفس، وعن الحسن قال: "كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة"، وقال ابن زيد: "المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ الله من ذلك كله، قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها"
ولا يفوتنا كذلك أن نذكِّر بقوله تعالى: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]
أدعو المولى - عز وجل - أن يكون هذا الطرح لهذه الآيات الكريمات قد وضَّح المعنى لمن التبس عليه فهمها أو وضعها في غير موضعها، إنه سبحانه وتعالى وليّ ذلك والقادر عليه