مدخل
لستُ أعلم من أين أبدأ؛ فهذا المقال لا يُكتبُ بمداد القلم أو بحروف صمّاء ولا بكلمات راسية، بل بدموع العيون ودم القلب ورجفة الأعصاب من واقع معاناة إحدى المغتربات عن أهاليهن المقيمين في غزة، والذين قُصِفت بيوتهم وأماكن عملهم وتشردوا خائفين مرتعبين، وتوزعوا هنا وهناك بعد أن فقدوا كثيرًا منهم ولا يزالون معرضين جميعًا للإبادة في أية لحظة.
لطالما عرّفت نفسي بأنني تلك الفلسطينة التي نشأت جُلّ عمرها في غربة – قسرًا – لا رفاهيةً ولا حبًا في الاغتراب وإجلالًا له، وقد تخلَّلت رحلة الاغتراب الدائم تلك عدة سنوات قضيتها في قطاع غزة عايشت فيها عشرات المجازر الصهيونية شبه السنوية، ومئات الاجتياحات البريَّة والبحرية والجوية، وانحجزتُ في غرفِ تفتيشٍ جانبية مُذِلّةٍ خلال زياراتي المتقطّعة لغزة، وقت كان الصهاينة لا يزالون يسيطرون على المعبر الفلسطيني الوحيد الذي ندخل منه إلى غزة.
وفي كل زيارة كنت أعيش منع التجوّل ليلًا والصمت والاختفاء حال تجوّل الصهاينة بين الحواري الفلسطينية بكلابهم البوليسية التي لم تكن تتركنا ننام في سلام، ورأيتُ بنادقهم المصوّبة على جميع النوافذ خوف أن يُطِلَّ منها ولو طفل صغير، وصراخهم على من يفتح أي باب في الحارة التي يدخلونها، كما عايشت بعد استقراري فيها أحداث انتفاضة الأقصى المباركة 2001م وأحداث المذبحة التي ارتكبتها عصابات الصهاينة في مدينتي الهادئة/ الجريحة خان يونس في أواخر التسعينيات والتي استُشهِد فيها عدد من أقاربي، وتوقفت على الحواجز الصهيونية لساعات وساعات آلاف المرات قبل جلاء المحتل المُجرم من القطاع في 2005م، ونجوت – حرفيًا نجوت – من أربع حروب ثم اغتربت مرة أخرى؛ ربما لأن هناك رسالة أؤديها من منبرٍ آخر في مكان آخر، وهذا إيماني الذي أبثه لجميع المغتربين أمثالي.
كانت أوجاعنا مضاعفة حين انفتح في قلوبنا العزاء مذ ارتقى أول شهيد نعرفه وحين يُستَشهَد زملاؤنا وأصدقاؤنا وأحبتنا فلا نستطيع فتح بيت عزاء إلا في قلوبنا، وقد اكتظت مساحاتها بقبورهم وأسمائهم كي لا ننساهم
ولا أنسى أنني ابنةٌ لرجلٍ عاش نازحًا لاجئًا بدون هوية لأكثر من 50 عامًا، وحينما حصل على تصريح دخول للبلاد بعد أكثر من 30 عامًا من النزوح والاغتراب طار إلى البلاد بدون تردد أو تفكير؛ آملًا أن يعيش ويُدفن فيها، وحين حصل على هُويته الفلسطينية توفي في أول سفرٍ حملها فيه مسافرًا فلسطينيًا فخورًا بفلسطينيته، ودُفن خارج البلاد بعد أن عاش لاجئًا نازحًا لكنه وإن دُفِنَ خارجها فعزائي أنه مات حاملًا هويته الفلسطينية التي ياما انتظر لأجل الحصول عليها! أليس هذا فصلٌ دراميّ شائق؟
أكتب هذا المقال (تحت وطأة عذاب الغربة وأنا أتابع ما يعانيه أهلي في غزة عاجزة عن نصرة هذه القضية العادلة إلا بتأدية رسالتي التي أؤمن بها من حيث أقف، فهذا هو انتقامي الذي أستطيعه وهذا هو ثأري الوحيد لصغارنا وأهلينا، لرجفاتهم ودموعهم، لكل لحظة شعروا فيها بالخوف)
هذه هي قصة الاغتراب الفلسطيني، الذي لن يكون يومًا مجرد فصلٍ أو مقال أو قطعة أدبيّة، حين نتفادى متابعة الأخبار ونتلاشها فنغلق آذاننا نصف غلق، ونغمض أعيننا عن صور الضحايا من الفلسطينيين العزل الأبرياء؛ خوف أن نلمح وجه أحد نعرفه أو نسمع اسمه.
وكم كانت أوجاعنا مضاعفة حين انفتح في قلوبنا العزاء مذ ارتقى أول شهيد نعرفه وكل أهالي غزة أهلنا ونعرفهم – إذ كلها "أوضة وصالة" كما نقول دومًا – حين يُستَشهَد زملاؤنا وأصدقاؤنا وأحبتنا فلا نستطيع فتح بيت عزاء إلا في قلوبنا، وقد اكتظت مساحاتها بقبورهم وأسمائهم كي لا ننساهم.
كلنا شهود، وإن كنا مغتربين؛ فقد أجهزت علينا الحرب بعد أن نجونا من حرب 2009، وقبلها من أحداث انتفاضة الأقصى 2001، وقبلهما من أحداث مجزرة خان يونس 1997، وبعدهما حرب اغتيال الجعبري 2012... وعدّ قدر ما استطعت أن تعُدّ، فالحبل لا يزال على الجرار!
فوجئتُ بي حيًّا... وبآخرين
هذا عنوان الكتاب الملحميّ الذي سجّلت فيه كثيرًا من القصص والمشاهد الحقيقية التي عايشتها تحت حرب الصهاينة التي شُنت على غزة في يوليو من العام 2014م، والتي طالما وصلتني رسائل من قراء الكتاب تخبرني بأن هذا الكتاب يُعَاشُ، لا يُقرأ وحسب؛ إذ أن طعم الدم والرماد يمكن أن يختلط بطعم القهوة التي ترافق طقوس القراءة لدى أحدهم!
يمكنك تحميل الكتاب وقراءته من هنا: كتاب: فوجئت بي حيًا.. وبآخرين – سماح المزين
كانت هذه الحرب في رمضان، لم يكن لدينا تيار كهربي إطلاقًا، كنا حين نفتح طرف الباب للتهوية تدخل رائحة الدم فتملأ أجوافنا، وحين نفتح النوافذ كي لا تهتز مع القصف العنيف فتنكسر فوق رؤوس أطفالنا ورؤوسنا تمتلئ عيوننا وبيوتنا بنثار رماد البيوت المقصوفة من حولنا.
كلنا شهود، وإن كنا مغتربين؛ فقد أجهزت علينا تلك الحرب الملعونة 51 يومًا متتالية بعد أن نجونا من حرب 2009، وقبلها من أحداث انتفاضة الأقصى 2001، وقبلهما من أحداث مجزرة خان يونس 1997، وبعدهما حرب اغتيال الجعبري 2012... وعدّ قدر ما استطعت أن تعُدّ، فالحبل لا يزال على الجرار!
اقرأ أيضًا: طوفان الأقصى، يفضح مجازر الصهاينة في فلسطين على مرّ التاريخ
لكنني اليوم أكتب عن بُعد وما بيدي إلا أن أكتب وأوثّق، لا عن الوطن الذي تدفأ بالقصيد في ديواني الخاص بفلسطين والقدس (وطن تدفّأ بالقصيد)، ولا عن يوميات الوطن المعجزة (غزة) كما فعلت في كتابي إياه، بل عن يوميات مغترب أهله تحت الحرب ولست أدري بعد من أين أبدأ.. إلا أن أقصى ما أرجوه في هذه اللحظة أن (أفاجأ ببقية الأحبة أحياء) بعد انتهاء الحرب الطاحنة والعدوان الصهيوني المسعور وزوال هذه الغمة عن قطاع غزة!
يمكنك أيضًا من هنا تحميل وقراءة ديوان شعر: وطن تدفأ بالقصيد – سماح المزين
أشعر بالذنب لمجرد أنني أعيش حياة عادية، جيدة أو هادئة، سارية على نحو مستقر إلى حد ما، لستُ مهددًا بالموت في كل لحظة، لست مشردًا مثل أهل غزة..
عقدة الناجي/ عقدة الذنب التي نشعر بها بسبب النجاة مما يعيشه المضطهدون
بعيدًا عن كل قوانين ونظريات علم النفس، تلك العقدة يشعر بها أغلب المغتربين عن أهليهم المحاصرين والرازحين تحت سطوة العدوان المسعور قيد دورهم في الإبادة، وربما يشاركهم تلك المشاعر كثيرون ممن ليسوا فلسطينيين بالهوية وإنما بالدم والقلب والضمير والحميّة، ثلةٌ إنسانيون/ استطاعوا أن ينتصروا لنداء الدين والواجب والإحساس والعروبة في صدورهم وضمائرهم فشعروا بعقدة النجاة تلك معنا.
ويتلخص مفهومها في: "أن أشعر بالذنب لمجرد أنني أعيش حياة عادية، جيدة أو هادئة، سارية على نحو مستقر إلى حد ما، لستُ مهددًا بالموت في كل لحظة، لست مشردًا مثل أهل غزة.. إلى غير ذلك الشعور مثل أننا لا نعيش المشاهد المروعة التي يعيشها كثيرون، والأمثلة كثيرة ومخيفة لدرجة عدم القدرة على سردها ربما"
أنا، وبعض من مثلي نتخطى تلك العقدة بالطريقة الأسلم والأصح لتخطيها، وهي أن نكون إيجابيين مع القضيّة وأن نفعل ما بوسعنا لنصرتها، فننشر عنها، نترجم قدر إمكاننا ونوصل رسائل أهل غزة، ونساهم في حملة الوعي بالقضية الفلسطينية تلك الحملة الآخذة بالتمدد والانتشار والتوسع على نطاق كبير وعميق، تاريخيًا ولغويًا وهذا بحد ذاته إنجاز.
آخرون لم يفوتوا ليلة واحدة منذ 25 يومًا يقيمون ليلهم ويصومون نهارهم ويدعون ويتبرعون بأثمن وربما بكل ما يملكون لنصرة أهليهم، وتخطي عقدة النجاة تلك.
عندما تجد فتاة أمريكية الجنسية - مسيحية الديانة، تنشئ ناديًا خاصًا بمن يودون التعرف إلى القضية أكثر، وينمو النادي ويكبر وينضم إليه مائة ومئتان وخمسمائة... حتى يصل عددهم بفضل الله إلى ما يقرب عشرة آلاف مشترك كثير منهم يطلبون نسخًا للقرآن الكريم بلغاتهم وقد أوشك مئات منهم على إعلان إسلامهم، وما ذلك – بعد توفيق الله - إلا نتيجة لسبب مهم وهو أننا أدركنا أن الحرب حرب وعي، فأبدع الصحافيون والكُتاب والمترجمون و"البلوجرز" في إيصال الصوت بكل اللغات.
لعل ذلك الأمر من أهم ما يطمئننا إلى أمر الله إذ قال سبحانه: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، أرادوها حربًا لصالحهم كي يَظهروا بصورة ضحايا – كعادة نواياهم - فانقلبت الآية، ونصر الله دينه وجنده حين شاء وكيفما شاء سبحانه.
اقرأ أيضًا: قيمة التضامن العالمي مع أهل غزة والمقاومة الفلسطينية في معركة طوفان الأقصى
وينهزم العالم كله أمام أهل غزة حينما يسألهم المذيع حين انقطعت الاتصالات عنهم: "كيف قضيتم الليلة؟" فيردّون: "كأننا نختنق بدون التواصل.. لكننا سعِدنا حين علمنا أن وزير السعادة الملثم لا يزال بخير – يقصدون الناطق باسم المقاومة أبو عبيدة – وارتحنا حينها فقط؛ فكلنا فداء للمقاومة!"
انقطاع الاتصالات – شتان بين ما نفكر فيه وما يُفكّر فيه أهل غزة
هو ليس ضعفًا فينا ولا قلة إيمان في حقيقة الأمر، إلا أننا حين نفقد الاتصال بأهلينا ولو لساعات، نكاد نُجنّ ونفقد عقولنا، ونتفادى – كما أسلفت – متابعة الأخبار؛ كي لا نفاجأ باسم أو صورة أحدهم في خبر عاجل.
في تلك الليلة التي انقطع فيها الاتصال تمامًا عن قطاع غزة، لا أعلم كيف مرت وكيف قضيناها، إلا أنني أذكر من بين أهم ما أذكره أنني لم أفارق قنوات الأخبار لحظة، لم أترك هاتفًا لمسعف أو صحافي أعرفه إلا وتواصلت معه على أمل طمأنتي ومن أستطيع..! وكنت تمنّيت لو أن أحدًا من أهلي وقف خلف المراسل يلوّح لي أن نحنُ بخير، كما فعلها رجل كريم من أهل غزة الشرفاء!
كم منّا – أعني المغتربين؛ فلستُ وحدي – كنا نتمنى لو أننا بين أهلينا هناك، لو أننا احتضنّاهم فقط، لو أننا نستطيع أن نخبئهم في قلوبنا ريثما تنتهي الحرب، وهذا ليس ضعفًا؛ ففينا من الإيمان والقوة ما لو توزع على هذه الأرض لكفاها، مؤمنون بقضيتنا، مؤمنون برسالتنا، مؤمنون بأهدافنا... ولا ننهزم – وإن كنت أتحدث عن نفسي هنا – إلا أنني أمام كلمة "بدي أشوفك، اشتقت لك يا خالتو، أو اشتقت لك يا عمتو" يقولها أبناء وبنات أخوتي الذين أعدهم بناتي وأبنائي، وكم قلت إنهم: "حين خرجوا من بطون أمهاتهم، لم ينزلوا الأرض بل نزلوا في قلبي" أكاد أتقطع خوفًا عليهم وخوف ألا أجتمع بهم لاحقًا، بينما يقويني إيمانهم الشديد وإصرارهم على أنهم مشاريع شهادة برغم صغر أعمارهم!
يعجزني ويهزمني من جديد إصرارهم على استعدادهم للموت في أية لحظة، كيف لا أصدّقهم وقد كنت بينهم ذات حربٍ وكان ذلك شعوري بالضبط!
وينهزم العالم كله أمام أهل غزة حينما يسألهم المذيع حين انقطعت الاتصالات عنهم: "كيف قضيتم الليلة؟" فيردّون: "كأننا نختنق بدون التواصل.. لكننا سعِدنا حين علمنا أن وزير السعادة الملثم لا يزال بخير – يقصدون الناطق باسم المقاومة أبو عبيدة – وارتحنا حينها فقط؛ فكلنا فداء للمقاومة!"
شعورنا الحقيقي، أننا نخونهم حين نعيش حياتنا بشكل عادي، حين نأكل بشكل طبيعي ونستخدم دورات المياه ونشرب الماء المفلتر ونشحن هواتفنا متى شئنا
حين يرحل عزيز – نكررها الشهداء ليسوا أرقامًا
نحن في المُغتَرَبِ لم نعد نتحمل أي حديث عادي أو يخلو من ذكر غزة وما يجري فيها من حرب إبادة إطلاقًا، حتى إننا بتنا نقابل كل يومٍ من يقول لنا: "حسستوني إني خاين" هذا شعورنا الحقيقي، أننا نخونهم حين نعيش حياتنا بشكل عادي، حين نأكل بشكل طبيعي ونستخدم دورات المياه ونشرب الماء المفلتر ونشحن هواتفنا متى شئنا.. بينما حين نسألهم تقول أختي: نطبخ بأقل قدر من الماء ونستخدم أقل قدر من الأواني كي تكفي الماء لتنظيفها.. نسأل أين غبتم؟ يقولون: أرسلنا هواتفنا نشحنها في المسجد أو في مكان ما مزود بالطاقة الشمسية أو في عربة فلان! أو: نطفئ الموتور ليلًا لنضمن أنه سيتبقى لدينا بقية طاقة في اليوم التالي فلا نعرف كيف ستكون الظروف! وتقول صديقة: لقد تهلل فرحًا بيتنا - الذي لجأ إليه في الحرب فوق الأربعين نفرًا – تهللوا فرحًا حين عاد ابني حاملًا معه قنينتي (زجاجتي) ماء صالح للشرب!" وتقول صديقتي الأخرى: نشفت بطون طفليَّ – أحدهما 6 أعوام والآخر عام ونصف - من تناول الحبوب والأرز فلم يتذقوا الخضرة أو الفواكه منذ ساء الوضع!" كيف الاقتناع بعد ذلك كله بأنه يمكننا النوم بهدوء أو تناول مائنا المفلتر وطعامنا المنوّع أو نتحدث عن أي شيء غير غزة وأوجاعها بدون أن نشعر بأننا خائنين! آآآآآآآه .. بعمق الوجع وقسوة العجز!
ثم يُطلبُ منّا ومنهم أن نظلّ أبطالًا، ونصمد أكثر ونكون قدوة، بينما لا شيء يمكنه أن يواسي، كل الكلام عاجز، كل المشاعر جامدة أمام ما نراه .. ما يقاسونه .. ما عشناه بينهم سابقًا ونعرف إحساسهم فيه جيدًا!
اقرأ هنا: البطولة ودروبها الوعرة
وبينما يصوّرهم بعض المغرضين في العالمُ كـ "شحاذين" للأسف، تتجلى للعالم كله عزة أنفسهم، ويصرّ الغزيون أنهم مكتفون بما ذاقوه من شرف وكرامة وعزّة ازدادت وتيرتها بعد السابع من أكتوبر 2023 وبعد شهر كامل من العدوان المسعور، بعد هجوم طوفان الأقصى المُشرِّف للمقاومة الفلسطينية التي يفديها الغزّيون بأرواحهم ولا يزال يردد شبابها وأطفالها المصابون: "شكرًا يا إسعاف، بنحبكم يا إسعاف" وأخرون يرددون وهم ينزفون: "المهم أبو عبيدة بخير، المهم المقاومة بخير" هؤلاء هم أهل غزة الذين لا يطلبون من أحدٍ – عربيّ أو غير عربيّ - شيئًا، وقد اكتفوا باتصالهم مع الله حين انقطع اتصالهم مع البشر.
هؤلاء هم أهل غزة الذين لا يطلبون من أحدٍ – عربيّ أو غير عربيّ - شيئًا، وقد اكتفوا باتصالهم مع الله حين انقطع اتصالهم مع البشر
اسمحوا لي هنا أن أروي لكم قصّة شابة أعرفها (نور) والتي حدثت قبل أيام:
في أحد أحياء مدينة خان يونس (مدينتي الهادئة التي أعشقها) وقبل أسبوع تقريبًا، هربت نور (الصبيّة التي لم تتجاوز ال23 من عمرها) هربت ذات ليلة مع أمها وأخوتها من منزلهم ليختبئوا عند خالها في منطقة حي الأمل – باحثين عن الأمان – فانقصف الحي بأكمله ببراميل متفجرة وصل وزنها إلى 6 أطنان، واستشهدت نور في لحظتها مع خالها وابنه، وأدخلت أختها إلى غرفة العمليات ولا تزال حتى اللحظة في العناية المركزة بحالة خطرة، وأصيبت أمها وأخوها، لم يفق الوالد المكلوم من فاجعته تلك إلا وصحا صبيحة يوم 26 أكتوبر على قصف منزل عائلته واستشهاد زوجته الأخرى مع أبنائها وإصابة والدته إصابة بالغة... كانت أختي تقيم في منزل لصيق وتضرر بيتها كثيرًا بينما نجت مع أولادها بحماية من الله وحسب!
كانت لدى الشابّة نور قائمة من أحلام بريئة نمارسها يوميًا بدون أن نتمنى ونخطط للحصول عليها وننتظر لتتحقق (مثل أن تعمل في مجال دراستها، أن تلتحق بنادٍ وتمارس الرياضة، أن تسافر وترى العالم خارج غزة كيف يبدو)، وهذا ما يزيد من عقدة الذنب بداخلنا.
لم تنته القصة؛ فلديّ قصة قصيرة أخرى تتعلق بنور: لقد اقترض والدها منذ فترة قرضًا من البنك لإجراء عملية "ليزك" لبناته نور وأختها 19 عامًا؛ لأنه يريد أن يٌخلِّص عرائس قلبه من ارتداء النظارات التي ترهقهن كإناث، ووعدهن بإجراء العملية في "مصر" ليحقق لهما حلمهما بالسفر أيضًا، لكنهم لم يستطيعوا السفر فاستسلم للأمر الواقع وأجرى العملية في غزة لابنتيه" استشهدت نور وأختها الصغرى (سنتان) وزوجة أبيها بينما أختهما الثالثة لا تزال طريحة إصابة خطرة ربما تعرضها لإعاقة دائمة بعد أن كانت ترهقها نظارة! لم يفرح الأب بعرائسه، ولم يسدد القرض بعد!
الحقيقة التي نرفضها أن شهداءنا ليسوا أرقامًا، مثل هبة ونور وغيرهما ملايين القصص للشهداء، فليسوا مجرد رقم في قائمة أو اسم على كفن كما يحصل في العدوان المدمر الذي تتعرض له غزة
هذه واحدة فقط من قصص أهل غزة.. واحدة فقط، يعلم الله وحده كيف يجمع الناس في غزة قوت يومهم، وكيف يبنون بيوتهم، وكيف يعيشون! حتى إن المعيشة العادية أصبحت حلمًا بالنسبة لأكثرهم! هذا ما يزيد فينا الوجع وعقدة النجاة.
تقول صديقتنا الشاعرة هبة أبو ندى – التي استشهدت في قصف غادر لمنزل عائلتها رحمها الله – كتبت تقول في صفحتها عبر فيس بوك قبل استشهادها بساعات: "قائمة الأصدقاء عندي تنكمش، تتحول توابيت صغيرة تتناثر هنا وهناك، لا يمكنني إمساك أصدقائي وهم يتطايرون بعد الصواريخ، لا يمكنني إعادتهم من جديد ولا يمكنني أن أعزي فيهم ولا يمكنني البكاء، لا أعلم ماذا أفعل! كل يوم تنكمش أكثر، هذه ليست أسماء فقط هؤلاء نحن بوجوه وأسماء مختلفة فقط، يا رب.. ماذا نفعل يا رب أمام وليمة الموت الضخمة هذه! لا توجد أية أيقونة هنا تعيدهم ولو كذبًا..." توجّعنا كثيرًا حينما كنا نقرأ كلماتها، ولم نكن نعلم أنها ستزف شهيدةً في التابوت القادم.. هبة أيضًا كانت تحلم بالسفر، حازت جوائز أدبية وحصلت على دعوات لمشاركات أدبية خارج غزة لكنها لم تستطع السفر لأسباب وظروف كثيرة!وغيرها كثير من أقاربنا وأصدقائنا وأحبتنا وزملائنا... وكل أهل غزة كذلك.. سبحان من ينطقهم قبل أن يختارهم ويصطفيهم، غير أن الحقيقة التي نرفضها أن شهداءنا ليسوا أرقامًا، مثل هبة ونور وغيرهما ملايين القصص للشهداء، فليسوا مجرد رقم في قائمة أو اسم على كفن كما يحصل في العدوان المدمر الذي تتعرض له غزة، ولطالما رددتُ:
لكل شهيدٍ حبيبة قلبٍ وأهلٌ وناسٌ، حياة وقصّة
ويترك كل شهيد حكايا.. وأمًا وبيتاً وجرحاً وغَصّة
لا نريد أن يصل بنا الأمر أو بأحد إلى التعوّد على منظر الدم ووجع الفلسطينيين كأنه روتين عاديّ يحصل يوميًّا، بالرغم من أن ذلك لا يبت من عزيمة المقاومين ولا يقلل من ثقتهم بربهم
خوف الوصول إلى مرحلة Emotion numbness / الخدر العاطفي:
هذا خوف مصاحب لخوفنا من توقف العرب عن التضامن، هو نوع من أنواع اضطراب ما بعد الصدمة، وهو ردة فعل طبيعية يتخذها العقل لحماية نفسه وحماية الجسد من أن يتدهور إثر تتابع انفعالات الخوف والقلق والإحباط والوجع عمومًا عليه.
لا نريد أن يصل بنا الأمر أو بأحد إلى التعوّد على منظر الدم ووجع الفلسطينيين كأنه روتين عاديّ يحصل يوميًّا، بالرغم من أن ذلك لا يبت من عزيمة المقاومين ولا يقلل من ثقتهم بربهم في الحقيقة؛ لأنهم اعتادوا الوقوف وحدهم وانتهى الأمر، لكننا لا نريد أن نصل لهذه المرحلة المقيتة من الخدر العاطفي، والالتفات لتفاصيل الحياة مع عدم الاهتمام الجديّ المتواصل بما يحدث.
لا أخفيكم أنني يكاد يقتلني أن العالم يسير بوتيرته العادية ذاتها، ويعيش يومه بتفاصيله كاملًا مكتملًا بينما لنا أخوة يُقتلون في اليوم ألف مرة، وأطفال حملوا اليتم مع العقد النفسية بدواخلهم.
تقول إحدى صديقاتي المقيمات تحت الحرب: "نعزّي بعضنا البعض بأن أحدنا لن يخاف إذا جاء دوره في الشهادة؛ فهو لن يسمع صوت الصاروخ الموجه إليه ولن يشعر بألم بعد استشهاده!"
عن نفسي، لم أتخلص حتى هذه اللحظة، لم أتخلص إطلاقًا من العقد النفسية التي تركتها الحياة في غزة ومعايشة ظروفها بداخلي، لقد وصلت إلى مرحلة الارتجاف بمجرد سماع صوت الطائرة أو صوت الرعد أو أية طلقات قريبة في حفل ما!
مثلما لم أتخلص من عقدة الانتهاء ونقص المؤونة: انتهاء الأشياء من السوق، انقطاع التيار فجأة... وكثير جدًا من العقد التي لا يتسع المجال للحديث عنها من زاوية نفسية وتربوية، فكيف بهؤلاء الأطفال والناس.. كيف!
اقرأ أيضًا: كيفية التعامل مع الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الأطفال ضحايا الحرب في غزة