من اللوثات التي تسربت للفكر الإسلامي المعاصر تحت ستار مشروعية التساؤل والفضول المعرفي، إعلاء شأن الشك مطلقًا على أساس أنه بوابة للمعرفة، وذَمِّ اليقين غالبًا بوصفه تسليمًا أعمى دون نظر، فاعتمدنا تلقائيًّا مذهب الشك الذي يتَّكئ عليه الفكر الأعجمي غير المسلم، المغاير بالضرورة في المنطلق والمنتهى، واقتبسناه على علّاته بكثير من التشوّه والاختزال، وشرعنا نطبّقه بكثير من الخبط ونلوكه في كلامنا بمنتهى السطحية.
وأوّل من أَصَّلَ لذلك المذهب في الفكر الغربي هو المفكّر الفرنسي رينيه ديكارت، المُلقّب "أبو الفلسفة الحديثة"، في مقولته الشهيرة - والمختزلة من أطروحة طويلة: "أنا أشُكُّ، إذن أنا موجودٌ"، وقد بدأ هذا المذهب "كرؤية شخصية" عند صاحبه؛ لأسباب نفسانيّة واجتماعيّة وعقلية لم يلتفت لها غالب المستوردين للفكر الأجنبي بسطحية، إلا أن تَعمِيدَهُ كمرجع فكريّ مهيمن عندهم له أغراض أخرى تتجاوز حيّز تقدير "الفلسفة الإنسانية" وإعلاء شأن "الفضول المعرفيّ"، لتُؤصِّل لنهجهم في الحياة المُتعمِّد لهَدِّ أيّ وجود لكِيان الحق، واستئصال أيّ بقاء لجذوره، وإبطال الاعتقاد بوجود حقيقة مطلقة أو حق مرجعيّ لكل الناس؛ لأنّ ذلك يفتح سبيل التوصل لمنظومة الخالقية والإيمان بالله خالقًا.
لا يستقيم لليقين الديني الحقّ أن يكون "أعمى"؛ لأنّ اليقين الحقّ في الحقّ يعني بلوغ الاطمئنان القلبي المتوافق مع حركة العقل السَّوِيَّة، فهو رديف البصيرة لا العمى! وما سوى ذلك فلا يُسمَّى يقينًا وإن تلبَّس باسمه
وأما تسلسل المنطق في التصور الشرعي الحقّ يقوم على أنّ واضع المنظومة الكونية وأسباب الهداية وآيات الحق، هو نفسه تعالى الذي خلق الإنسان ثم خلق فيه طاقات الإدراك بالحس والعقل والوجدان، ثم كلَّفه بمعرفته والإيمان به تعالى، فهذا المخلوق بأمر الله، المكلَّف من الله، على أرض الله، في ولاية الله، لا يمكن بحال أن يُترَك فريسة لثغور الشك، وتخبطات ابتداع تصورات "شخصية" للوجود، وحَيْرات اختراع مغزى "نسبي" لوجوده؛ إذ أنّ ذلك يؤدي لتعطيله عن تكليفه، وارتباكه في التّصَرّف تجاه قضايا مصيرية لا تحتمل وجهين، وذلك عبث يَتنزّه عنه المولى - جلّ وعلا - ويجب أن يتنزّه عنه كذلك كل مؤمن به تعالى!
لذلك لا يستقيم لليقين الديني الحقّ أن يكون "أعمى"؛ لأنّ اليقين الحقّ في الحقّ يعني بلوغ الاطمئنان القلبي المتوافق مع حركة العقل السَّوِيَّة، فهو رديف البصيرة لا العمى! وما سوى ذلك فلا يُسمَّى يقينًا وإن تلبَّس باسمه، وأشهره مظاهر وراثة الدين ضمن حزمة الجينات الفطرية! أمّا اليقين الذي ينشده المؤمن بالله، فهو نور داخلي يَعْمُرُ نفسه فكرًا ووجدانًا، يُهدَى إليه بتوفيق إلهي، بعد بذل أسباب طلبه وتعلّمه والمجاهدة في موافقته والتخلّق به، فيوافق بذلك فطرة الله التي فطره عليها، والميثاق الذي أخذه على بني آدم، والشهادة التي أشهدهم عليها، وفي التصوّر الإلهي (بالألف واللام وليس أي تصور فيه نوع "إله")، لا يمكن أن يقع تعارض بين القلب والعقل، والبرهان واليقين، والسؤال والعلم، وما يُتَوَهَّم من تعارض سببه جهل أو سوء فهم من المُتوَهِّم.
منهج الشكّ المُطلَق على الشاكلة الأجنبيّة هو خلل في اليقين لا مدخل له، وعلامة مرض لا مفتاح علاج، وآفة في النفسيّة قبل العقليّة، إذ تَصدُر من نفوس تأصَّل فيها العناد على جهل أو الكِبر على علم
والخلاصة هنا أنّ منهج الشكّ المُطلَق على الشاكلة الأجنبيّة هو خلل في اليقين لا مدخل له، وعلامة مرض لا مفتاح علاج، وآفة في النفسيّة قبل العقليّة، إذ تَصدُر من نفوس تأصَّل فيها العناد على جهل أو الكِبر على علم، فمهما تأتِها بالإجابات والبراهين لا تصغي وإن سَمعتْ، بل وتعود على بدء تكرر نفس القوالب التشكيكيّة كببغاء عقلُه في أُذُنيه!
وذلك مصداق قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]، ولا تجد ذلك النوع المَرَضيّ من الشكّ مذكورًا في القرآن إلا في موضع ذمّ له أو نهي عنه، ولم يوصَف به إلا الكفار والمنافقون، تمامًا كذمِّ حال التسليم على عَماية والتوارث دون دِراية.
الخلاصة هي مشروعية السؤال والاستفهام للتثبّت و"مواجهة" الشكوك بما بيّن الله تعالى من آياتٍ فيها الكفاية، لمن كان له قلب وأذن واعية، وليس الشاهد مشروعية التشكّك مطلقًا على أيّ وجه، ولا هو ممدوح بذاته لذاته.