سبق في الجزء الأول بيان منشأ مذهب الشك على يد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، وآثار استيراده على البنية الفكرية المُسلمة، ويخلط كثيرون بين مفهوم الشك ومفهوم التدبر أو التأمل، فيظنون أن الأخيرة هي "اللباس الشرعي" للأولى، وهما متنافرتان تمامًا!
ذلك أن دعوة الحقّ تعالى للنظر والتفكر في الدلائل والبراهين التي بثّها في الكون، ليست مرادفًا بحال لدعوات فتح الباب على مصراعيه للتشكيك في كلّ شيء وأيّ شيء، ولا إعمال العقل المقصود في الشرع يعني تفكيك الحق لرؤى نسبية وآراء شخصية... إلى آخر أخلاط وتشوهات الثقافة المعاصرة الهجينة، فلا يجتمع بحال إيمان بالله مع قناعة بشوائب التصورات الأعجميّة الهلامية، وإلا كان حاملهما متناقضًا في نفسه مع نفسه؛ فتلك التصورات إمّا أن تقدح في منطق إيمانه بالله وتُزيِّف حقيقته، أو أنّ منطق إيمانه بالله يقدح في تلك التصورات ويرفض استساغتها، ثم يدفعه للتعلم الصحيح عن الله، ورفع جهله المقنّع بقناع ظاهر العلم السطحي الموروث وفُتاتِه المُستورَد، وإنّ العلم بحقائق الوجود والتوصل للحق فيه بالبراهين ليس مستعصيًا على منال الإنسان حتى يحتاج لرحلة تفلسف معقّد، وكيف تستعصي عليه وهو المقصود بها والمخلوق لها؟!
المُعتبَر في ميزان الشك هو ما يمكن أن نسميّه الشكّ المنهجيّ، المرادف لحَيْرَة الاستفسار وفضيلة الاستفهام بهدف استبانة الحق واستيضاح اليقين، لا بهدف التفلسف الأجوف أو العناد الأصمّ واتخاذ التشكيك بحدّ ذاته مطلبًا
وإنما المُعتبَر في ميزان الشك هو ما يمكن أن نسميّه الشكّ المنهجيّ، المرادف لحَيْرَة الاستفسار وفضيلة الاستفهام بهدف استبانة الحق واستيضاح اليقين، لا بهدف التفلسف الأجوف أو العناد الأصمّ واتخاذ التشكيك بحدّ ذاته مطلبًا، وهذا النوع هو من مفاتح طلب العلم بالحق والدعوة له كذلك، كما في قوله تعالى على لسان الصحابة للمشركين: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24]، فمقصود المقولة تشكيك المشركين في باطلهم بإعلان المؤمنين التحدّي بالحق الذي معهم يقينًا فيه، وليس القصد التشكيك في الحق والباطل سواء بسواء!
كما أنك "تقول في الكلام للرجل الذي يُكذِّبكَ: "والله إنّ أحَدَنا لكاذب"، وأنتَ تعنيه هو بالكذب، لكن كذّبته تكذيبًا غير مكشوف، وهو في القرآن وكلام العرب كثير" [تفسير الطبري]
ويخطئ من يتّخذ سيدنا موسى وسيدنا إبراهيم نموذجين "إسلاميين" لتطبيق مذهب ديكارت الشَّكِّي! وفي هذا الترقيع من السطحية والجهل بمقتضيات مقامات النبوة ما فيه، فضلًا عن أنّ الإصرار عليه قد يبلُغ بصاحبه من سوء الأدب وسوء المقال مع حضرة النبوة وجلال الله، ما لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى!
وتوضيح اللبس أنّ طلب سيدنا موسى رؤية الله تعالى بعدما كَلّمه، كان بدافع محبة في التقرب من خالقه وشوق للرؤية بعد السماع، لا شكًّا في الله أو انتكاسًا في الإيمان! حتى إنه بدأ مطلبه بقوله {ربِّ أِرِنِي أَنْظُرْ إليكَ}، فصيغة النداء وأسلوب الخطاب فيه من يقين النبوة ومحبة العبد المؤمن ما لا يخطئه فاهم، بل إنه بعدما أفاق عليه السلام، استغفر ربه وتاب إليه من طلبه ما لا طاقة له به، وليس من تَشكّكه في وجوده تعالى!
فرق بين اتخاذ الشك مبدأ للتساؤل والبحث الجادّ عن الحق، واتّخاذه مُسَلَّمَة ينعدم على أساسها الحق وتنتهي عندها الحقائق
وكذلك يقال في شأن طلب سيدنا إبراهيم - عليه السلام - أن يُرِيَه ربّه كيف يحيي الموتى، ليَبلُغ بالرؤية عَيْنَ اليقين بعد عِلم اليقين، كما أثبتَ القرآن جوابه حين سأله ربه {أَوَلَم تُؤْمِنْ} فأجاب: {بَلَى ولكن لِيَطْمَئِنَّ قلبي}، فالرد بـ "بلى" ينفي تَطرُّق أيّة درجة من ذبذبة الإيمان والشك من باب أولى، وقصده بالاطمئنان ليس ما يذهب له الفهم السطحي أنه تثبيت لقلقلة قلبية بل هو ترقٍّ في الثبات!
وأما حديث المصطفى عليه السلام: {نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ} [البخاري ومسلم]، فقد وردت فيه شروح وافية، منها ما ذكره القاضي عياض في كتابه "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" مِن مختلف وجوه تأويل الحديث، وكذلك شرح ابن حجر للحديث في "فتح الباري"، وخلاصتهم نفي الشك عن إبراهيم عليه السلام، إمام الحُنفاء وخليل الله تعالى، ذلك أنّ الشك لا يقع ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ تلك الرتبة من النبوة والقرب؟!
فرق بين اتخاذ الشك مبدأ للتساؤل والبحث الجادّ عن الحق، واتّخاذه مُسَلَّمَة ينعدم على أساسها الحق وتنتهي عندها الحقائق.