كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الموضوع أنه ما من يوم يمر على إخواننا في غزة إلا ويطاردهم الموت في كل مكان، يُقذفون بأطنان من المتفجرات وتدك الصواريخ بيوتهم ومنشآتهم والأشلاء تتناثر في كل مكان، وبلغ العجز في المستلزمات الطبية للحد الذي يُجري فيه الأطباء بعض عمليات البتر بدون استخدام "البنج" لعدم وجوده!
في وسط كل هذه الأجواء المأساوية نجد أن الله تعالى يقول في كتابه الكريم وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج]، ونجد أن الله تعالى يقول وقوله الحق: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]
تحدثنا بفضل الله تعالى في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:
استفسارات وتساؤلات:
أولًا/ وقفة مع قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا"
ثانيًا/ لماذا يترك الله المؤمنين يخوضون المواجهة بأنفسهم
لله الحكمة البالغة في وقت إنزال النصر وإذا فهمنا ذلك جيدًا لن نتأفف لبلاء يقع علينا ولن ننشغل بوقت نزول النصر بقدر انشغالنا بتحصيل أسبابه
وفي هذا الجزء سنتحدث بفضل الله تعالى عن:
ثالثًا/ لماذا يتأخر نصر الله عن الذين آمنوا؟
إن لله الحكمة البالغة في وقت إنزال النصر، كما أن له سبحانه الحكمة البالغة في كل أحوال عباده كبيرها وصغيرها، وإننا إذا فهمنا ذلك جيدًا لن نتأفف لبلاء يقع علينا ولن ننشغل بوقت نزول النصر بقدر انشغالنا بتحصيل أسبابه.
ومن الأسباب الظاهرة لنا في هذا الشأن، ما يلي:
1. قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج النضج الذي يؤهلها لاستقباله وأداء تبعاته والقيام بأمانته، فلو نزل النصر والحال كذلك انقلب على المؤمنين وبالًا وجر عليهم الويلات للحد الذي يجعلهم يشعرون بأنهم قد حُمِّلوا أمانة ليسوا أهلًا لهم.
2. قد يبطئ النصر حتى تنفد كل أسباب الأرض حينها يتضرع الجميع إلى الله تعالى بالدعاء بقلوب نقية مخلصة متجردة خاضعة خاشعة، حينها تكون الأمة قد نجحت في الاختبار وحينها تكون قد أصبحت أهلًا للنصر والتمكين، وهذا الحال هو الضمانة الأساسية لاستقامة الفئة المؤمنة على النهج بعد النصر. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق.
3. قد يبطئ النصر لأن الشر ما تزال فيه بقية من خير فيريد الله تعالى أن يجرد الشر منها حتى إذا أخذه لا يكون له من رحماء ولا شفعاء ولا يذكره أحد بخير.
4. وقد يبطئ النصر لأن الباطل لم ينكشف زيفه للناس تمامًا؛ فلو غلبه المؤمنون والحال كذلك فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه الذين لم يقتنعوا بضرورة زواله، فيشاء الله تعالى أن يُبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للجميع، ويذهب غير مأسوف عليه من أحد!
قد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقباله الانصياع لتبعاته وتحكيم مبادئه، لذلك يظل الصراع مع الباطل قائمًا حتى تتهيأ النفوس لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه والدفاع عنه!
5. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقباله الانصياع لتبعاته وتحكيم مبادئه، فلو انتصرت الأمة والحال كذلك للقيت مُعارضة داخلية لا يستقر لها معها قرار، وينتقل الصراع من صراع خارجي إلى صراع داخلي لذلك يظل الصراع مع الباطل قائمًا حتى تتهيأ النفوس لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه والدفاع عنه!
قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41]
من أجل كل ما سبق، ومن أجل غيره مما يعلمه الله تعالى، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام.
جاء في صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: "قدْ كانَ مَن قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ علَى رَأْسِهِ فيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ، ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، فَما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ"
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "لا بد لهذه الأمة من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام"، ولا يفوتنا أن نقول بأن "لكل شدة مُدة" وأن الله تعالى يسوق إلينا الشدائد والمحن والابتلاءات لا ليعذبنا بل ليهذبنا بمغفرة الذنوب ونفاء النفوس وعلو الدرجات؛ ولكي ترق قلوبنا فتكون مصدرًا للعون والتخفيف عن كل أصحاب والمحن والابتلاءات ولنواسي المكلوم وننصر المظلوم ونحمل الكل والمعدوم، ولا نكون يومًا سببًا في ظلم ولا إيذاء لأحد بعد أن تجرعنا مرارة الظلم ولوعته وأساه.
كما يهذبنا كي نبذل وسعنا وطاقتنا من أجل رفع الظلم والأخذ على يد الظالم، ولكي نكون أهلًا لمجاورته سبحانه وتعالى في جنته، ولصحبة نبيه الكريم على حوضه، ولمرافقة الصحب الكرام في أعالي الجِنان.
هناك جيوش مُجيشة من شياطين الإنس من كل الملل والنحل تعمل على عدم تحقق شروط النصر وتحاول بشتى السبل أن تحول بين المسلم وبين الاعتصام بحبل الله المتين
رابعًا/ شروط النصر كما وردت في القرآن الكريم
إن للنصر خمسة شروط ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الْأَنْفَال: 45، 46]
والشروط الخمسة التي ذكرها الله تعالى في الآيتين هي:
• الثبات
• الذكر
• طاعة الله ورسوله
• إصلاح ذات البين وعدم التنازع
• الصبر
وتفاصيل هذه النقاط يطول شرحها ولا يتسع المقام لذلك ولكن كلي ثقة بأن المُبلَّغ أوعى من الكاتب، وكل ما يمكن قوله في هذا الصدد إن المُوفق هو من وفقه الله تعالى للتمسك بحبله المتين في وسط كل هذه الأحبال؛ لأن كل حبل سوى حبل الله بالٍ، وكل حبل سوى حبل الله مصيره إلى انقطاع ومصير من تمسك به إلى هلاك.
كما أن على كل مسلم أن يعلم أن هناك جيوشًا مُجيشة من شياطين الإنس من كل الملل والنحل تعمل على عدم تحقق شروط النصر وتحاول بشتى السبل أن تحول بين المسلم وبين الاعتصام بحبل الله المتين، والفائز من يلحق لنفسه بين المعتصمين مكانًا.
وما يمكن قوله هو إن ثواب جهادكم عائد عليكم فلا تبتئسوا ولا تحزنوا، وأن النصر كائن لا محالة - بكم أو بغيركم - فمن أنزل الكتاب وأرسل الرسل قد تعهد بذلك، وما يمكن قوله والحال حالِكٌ أن معية الله تعالى التي حفظت إبراهيم في النار، وحفظت يونس في بطن الحوت، وحفظت يوسف في الجُب وفي بيت العزيز وسجنه، وحفظت موسى من بطش فرعون، وحفظت عيسى بأن رفعه الله إليه، وحفظت محمدًا وصاحبه في الغار، وحفظت ثلة من التابعين من بطش الفجار لن تخطئكم يا أهل غزة بإذن الله تعالى فاستبشروا خيرًا وتفاءلوا بالخير تجدوه!
وتتمة القول: إن كلمة الله تعالى عُليا في ذاتها علوًا قدريًا أزليًا، وكلمة الذين كفروا سفلى في ذاتها سفولًا قدريًا أزليًا وتحقق ذلك يكون بقدر ما نبذله من جهد إيماني وبقدر ما نبذله من جهد عملي في إزالة الأستار والحُجُب التي يضعها أهل الباطل ليحولوا بيننا وبين رؤيتنا لنصر الله الذي نظنه يرفرف فوق رؤوسكم وينتظر كلمة "كن" ليكون!
من ظن أن الصراع بين الحق والباطل ينتهي في جولة واحدة فليراجع فهمه، ومن ظن أن الله تعالى سيجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا فليراجع إيمانه، ومن ظن أن الله تعالى يتخلى عن دينه وعباده الصالحين فليراجع عقيدته
ختامًا أقول:
لا بد أن نوقن بأن كل تضحية في سبيل نصرة الحق وأهله هي تضحية مأجورة لا تضيع سُدى إنما يجد صاحبها من الأجر ما يضمد الجراح ويُنسِي الألام، بل يتمنى صاحب هذه التضحية لو كان زاد البذل ولو كان نزل به مزيد من البلاء لما يجد من الأجر.
جاء في سنن الترمذي: "يودُّ أَهْلُ العافِيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أَهْلُ البلاءِ الثَّوابَ لَو أنَّ جلودَهُم كانَت قُرِضَت في الدُّنيا بالمقاريضِ" (حكم المحدث: غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه)
وأقول:
من ظن أن الدنيا دار راحة فليراجع نفسه، ومن ظن أن الصراع بين الحق والباطل ينتهي في جولة واحدة فليراجع فهمه، ومن ظن أن الله تعالى سيجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا فليراجع إيمانه، ومن ظن أن الله تعالى يتخلى عن دينه وعباده الصالحين فليراجع عقيدته.
قال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15]
للمزيد حول نفس الموضوع أنصح القاريء الكريم بقراءة هذا الموضوع: نصر الله قادمٌ لا محالة... ولكن!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين