ما من يوم يمر على إخواننا في غزة إلا ويطاردهم الموت في كل مكان، يُقذفون بأطنان من المتفجرات وتدك الصواريخ بيوتهم ومنشآتهم والأشلاء تتناثر في كل مكان، وبلغ العجز في المستلزمات الطبية للحد الذي يُجري فيه الأطباء بعض عمليات البتر بدون استخدام "البنج" لعدم وجوده!
في وسط كل هذه الأجواء المأساوية نجد أن الله تعالى يقول في كتابه الكريم وقوله الحق: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} [الحج]، ونجد أن الله تعالى يقول وقوله الحق: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]
قد يقول قائل: أين دفاع الله عن الذين آمنوا وسط المشاهد المأساوية التي تمر بها الأمة عامة والشعب الفلسطيني وفي القلب منه أهل غزة خاصة؟ أين دفاع الله عن الذين آمنوا وسط هذه الانتهاكات، وهذا الظلم، وهذا الفجور والتجبر من أعداء الله! أين دفاع الله تعالى والأعراض قد انتهكت، والحرمات قد استبيحت، والأبدان قد مُثل بها وقد حُرِّقت! وأين دفاع الله تعالى عن الشيوخ الرُّكع، والأطفال الرُّضع، والنساء العُزَّل! أين دفاع الله تعالى وبيوت الله تُهدَّم والمقدسات تنتهك حرماتها والعدو الغاشم يُعربد ويُهلك الحرث والنسل تحت مرأى ومسمع من العالم كله! وأين دفاع الله وقد أنهكتنا العبادة وأعيانا الدعاء بدون إجابة! وأسئلة أخرى كثيرة!
الله تعالى وعد وتكفل بانتصار الحق ولم يعد بانتصار أفراد بأسمائهم مهما كان جهدهم ومهما بلغت تضحياتهم؛ فالأفراد ما هم إلا ستار وأسباب لقدر الله تعالى
هنا لا بد أن نذكِّر بما جاء في كتاب "الفوائد" للإمام ابن القيم رحمه الله، قال: "سأل رجل الشافعيَّ فقال: يا أبا عبد الله، أيما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى؛ فإنَّ الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلمَّا صبَروا مكَّنهم، فلا يظن أحَد أن يخلص من الألَم البتة"
ولا بد أن نؤكد على أن الله تعالى وعد وتكفل بانتصار الحق ولم يعد بانتصار أفراد بأسمائهم مهما كان جهدهم ومهما بلغت تضحياتهم؛ فالأفراد ما هم إلا ستار وأسباب لقدر الله تعالى، لذلك نجد أن من بين الصحابة والتابعين من اضطهد وعذب ولم ينتصر الحق إلا بعد وفاتهم..
وما غلام قصة أصحاب الأخدود وقصة ماشطة ابنة فرعون وجيل الصحابة والتابعين وتابعيهم عنا ببعيد ولا بخفي، فإذا رأيت تضحيات من ضحوا وبذل من بذلوا، ورأيت استــشهاد أصحاب الحق على الطريق، فاعلم أن عينك معقودة بالطريق الصحيح وأن ما تراه إنما هو ضريبة النصر ومقدماته.
إن نصر الله تعالى للذين آمنوا يكون بحفظ العقيدة فتظل راسخة في قلوبهم، وحفظ نور الإيمان في وجوههم فلا يخفت ولا يزول، وحفظ أخلاقهم فلا تفسد ولا تتغير، وإن نصر الله تعالى للذين آمنوا يكون بحفظ كرامتهم فلا يقبلوا بذل ولا مهانة ولا يقبلوا أن يُساقوا مع الهمل، وأي نصر للمؤمن أكبر وأغلى من ذلك! وحين يفهم المؤمن حقيقة النصر هذه يقدم جسده الفاني ثمنًا للجنة ومهرًا للحور العين!
أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين بعد أن بلغ الاعتداء أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله، ووعدهم النصر والتمكين، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بيَّنها لهم
أولًا/ وقفة مع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}
عندما تَطَرّقَ الإمام القرطبي رحمه الله لتفسير قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا" قال: "المعنى: يدفع عن المؤمنين بأن يُديم توفيقهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، فلا تقدر الكفار على إمالتهم عن دينهم، وإن جرى إكراه فيعصمهم حتى لا يرتدوا بقلوبهم"
وعندما تطرق العلامة السعدي رحمه الله لتفسير نفس الآية قال: "هذا إخبار ووعد وبشارة من الله للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم كل شر - بسبب إيمانهم - من شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف، كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر"
وقال الشيخ الشعراوي رحمه الله: قوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا" [الحج: 38] أمرٌ طبيعيّ؛ لأن الحق سبحانه ما كان ليُرسِل رسولًا، ويتركه لأهل الباطل يتغلَّبون عليه، وإلاّ فما جَدْوى الرسالة إذن؛ لذلك يُطمئِن الله تعالى رسوله ويُبشِّره، فيقول: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171: 173]، وقال أيضًا: إن الله تعالى يريد أنْ يُخضِع قلوب عباده لا قوالبهم، فلو أخضعهم الله بآية كونية طبيعية كالريح أو الصاعقة أو الخَسْف، أو غيرها من الآيات التي أخذتْ أمثالهم من السابقين لقالوا: إنها آفاتٌ طبيعية جاءتنا، لكن جعل الله بين الفريقين هذه المواجهة، ثم يسَّر لحزبه وجنوده أسباب النصر، قال سبحانه: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} [التوبة: 14]
وقال صاحب الظلال "سيد قطب" رحمه الله [بتصرف]: "إن تلك الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة، ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم، بعد أن بلغ الاعتداء أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله، ووعدهم النصر والتمكين، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بيَّنها لهم"
التربية الوجدانية العملية التي تنشأ من النصر والهزيمة، ومن المشاعر المصاحبة لهما من الأمل والألم أمر تربوي في غاية الأهمية لإحداث التوازن الانفعالي لدى أهل الحق فلا تستفزهم مواقف ولا يجبنوا لأخرى
ثانيًا/ لماذا يترك الله المؤمنين يخوضون المواجهة بأنفسهم؟
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يحصل عن طريقهم هم أنفسهم وذلك لعدة أسباب منها:
1. كي يأخذ المؤمنون بكل الأسباب، ويبذلوا كل الجهد، ويستنهضوا كل الهمم، ويستدعوا كل الطاقات الكامنة، وتتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال، حينها.. وحينها فقط، تتهيأ لحمل الأمانة والقيام على تبعاتها.
2. إن الله تعالى يعلم أن النصر السريع الذي لا يكلف عناءً يُعطل كل تلك الطاقات داخل المؤمنين ويمنعها من الظهور؛ لأنه ليس هناك حافز لاستدعائها.
3. والله تعالى يعلم أن النصر السريع الهيِّن الليِّن سهل فقدانه وضياعه؛ لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة، ولأن الذين نالوه لم ينضجوا تمام النضج ولم تُدرب قواهم على الاحتفاظ به لذلك سيفقدوا هذا النصر مع أول مواجهة لهم مع أعدائهم.
4. إن التربية الوجدانية العملية التي تنشأ من النصر والهزيمة، ومن المشاعر المصاحبة لهما من الأمل والألم أمر تربوي في غاية الأهمية لإحداث التوازن الانفعالي لدى أهل الحق فلا تستفزهم مواقف ولا يجبنوا لأخرى.
على أهل الحق أن يضعوا كل التصورات ويتوقعوا كل ردات الأفعال الممكنة والمحتملة، فلا ينخدعوا بالنصر ولا ينشغلوا عن الميدان مهما كلفهم ذلك!
5. إن الاستعداد لمواجهة الباطل وخوض المعركة معه يجعل القلوب تتعلق بالله أكثر من تعلقها بحطام الدنيا، ويجعل التنسيق بين الاتجاهات والفصائل في أكمل صورة، فإذا أذن الله بالنصر والحال كذلك لا تجد عُجبًا ولا بطرًا ولكن تجد إيثارًا وإنكارًا للذات وتجد الجميع ينسب النصر لفضل الله وحده، وكلها أمورٌ ضرورية للأمة التي تحمل تبعات الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس.
6. إن النصر لا بد له من ضريبة تؤدى وكيل لا بد أن يُوفَّى لكي يكون نصرًا عزيزًا، ولكي يكون لمن يستحقونه ويعرفون قدره فيعضون عليه بالنواجذ، ويعرفون أن الله تعالى ما نصرهم ومكَّن لهم إلا لينصر بهم دينه، وليُقيم بهم شريعته، وليهزم بهم عدوه وعدوهم.
7. على أهل الحق أن يعلموا جيدًا أن سُنة الله تعالى في النصر والهزيمة لا تحابي أحدًا فلا أتباع الحق يكون سببًا للنصر ولا الخوض مع الباطل يكون سببًا للهزيمة، فكما قيل: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة.. ويهزم الدولة الظالمة وإن كانت مُسلمة"، وقيل: "النصر للأتقياء فاِن غابت التقوى.. فالنصر للأقوياء"
8. إن من يقين أهل الحق بنصر الله تعالى لهم أن يُحسنوا التخطيط لما بعد المواجهة والنصر كما أحسنوا التخطيط للمواجهة، وعلى أهل الحق أن يضعوا كل التصورات ويتوقعوا كل ردات الأفعال الممكنة والمحتملة، فلا ينخدعوا بالنصر ولا ينشغلوا عن الميدان مهما كلفهم ذلك!
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله تعالى، جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله هبة تهبط عليهم من السماء وهم كسالى، ولو كان هناك من بين الخلق من يستحقون النصر بلا ابتلاء لكانوا الأنبياء والرسل.
للحديث بقية في الجزء الثاني من نفس الموضوع إن شاء الله تعالى