صحيح أنّ السؤال من مفاتيح العلم، لكن ذلك لا يعني أنّ كلَّ سؤال محمود أو مطلوب، ولا أنّ كل سؤال موصل للعلم أو متّصل به أو حتى أصل فيه، خاصة حين نتحدث عن العلم بالحقّ، لذلك يفيد السائل والمسؤول أن يكونا على بَيّنة من أنواع الأسئلة التي تَعرِض لهما، إذ في معرفة التصنيف أولى درجات الجواب، وأول هذه الأنواع: ما لا يَحـِقّ للعبد سؤالها!
ومثالها:
- لماذا لم يسألني الله تعالى قبل أن يخلقني إن كنتُ أريدُ أن أُخلَق أم لا؟!
- لماذا لم يعطني الله تعالى ما أعطى فلانًا؟!
- لماذا خلقني الله تعالى هكذا؟ ولماذا يفعل بي ذلك؟!
جذر الإشكال ليس في بعض أسئلة مؤقتة عن ابتلاء وقع أو رزق ارتفع، ولا في بضع قلوب مَكلومة تُطَيَّب بالتفكر في وجوه الحكمة، ولو كان كذلك لهان
والمقصود بأنه لا يَحِقّ للعبد سؤالها ليس أنه يأثم بسؤالها ولا أنها لا جواب لها، وإنما المقصود أن يَعلَم – أو يُعلَّم - سائلها فارق رتبة الخالق والمخلوق، والمالك والمملوك، والسيد والعبد، قبل أيّة محاولات جواب أخرى، إذ لو كان تَعلَّم ذلك وفَقِهه لما وَصَل لمِثل تلك التساؤلات، ولأدرك أنها خارج نطاق "استحقاقها" للسؤال و"استحقاقه" للجواب، فهذا النوع من الأسئلة إشكاليته الأساسية في تشكّله النهائي بنبرة مُستنكرة في نفسيّة مُستَعْلِية لا مُستَعْلِمَة، بما يدلّ على خلل في جذور التصوّر العَقَدي في فِكر السائل ابتداء، والمسلم الذي يستوعب فارق مرتبة الرب عن العبد، يُميِّز بالتالي بين ما لا يُسأل في حقّ الله تعالى فهو الخالق، ولا يَسْأَلُه هو من جهته من لأنه المخلوق، ثم يوم أن يبلغ سؤال مثل تلك الأسئلة، يسألها بنبرة أدب لا تَهجُّم، وعلى وجه استفهام جاهل لا استجواب فائر!
وعلى كلٍّ، فجواب مثل ذلك النوع من الأسئلة مبنيّ على قاعدة مشيئة الله تعالى وقضائه، ويدندن حول مفهوم الخالقية ومقتضاها كما سبق بيانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]، فمن لم يعجبه الجواب، أو رأى في ذلك الجواب عدم جواب، لم يستشعر حقيقة مخلوقيّته أصلًا ولا أدرك معنى رتبته عبدًا ولا فَقِه مقتضى إسلامه، وكلّ محاولات الالتفاف في الجواب والإطالة في الشرح والاستماتة على إقناع السائل، لن يمكنها أن تَخرُج عن حدود هذه الخلاصة الصريحة المباشرة، بل ولن تَشرَح صدر السائل بسبب الخلل العقدي الكامن في نفسه، ولعلها تزيده تخلُّلًا بما تكسو الجواب من تلبيس!؛ لأنّ جذر الإشكال ليس في بعض أسئلة مؤقتة عن ابتلاء وقع أو رزق ارتفع، ولا في بضع قلوب مَكلومة تُطَيَّب بالتفكر في وجوه الحكمة، ولو كان كذلك لهان.
بل الإشكال في مسلمين لا يدركون معنى إسلامهم ومقتضياته، ولا يعرفون ربّهم الذي يعلنون له الإسلام ولا يوقّرونه، ولا يتأدبون عند حدود جهلهم بل يتجرؤون رغمه، فتبرز تلك التساؤلات عند منحنيات معيّنة، لتُظهر أخيرًا ما وقر في النفس بداية!
الإشكال في مسلمين لا يدركون معنى إسلامهم ومقتضياته، ولا يعرفون ربّهم الذي يعلنون له الإسلام ولا يوقّرونه، ولا يتأدبون عند حدود جهلهم
وتأمّل في قصة خلق آدم، لمّا سألت الملائكةُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}، كان الردّ الإلهي: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، إنه ردّ حقيق برُتبة الله تعالى الحقّ، ملك الملوك والملكوت، لا تبرير فيه ولا تفهيم، بل تحديد للحَدّ الذي تنتهي إليه رُتبة السائل، وينتهي عنده حقّه في التساؤل والاستعلام، ولا يعود من اختصاصه ولا حقّه أن يُجاب، بل ولا طاقة له بفهمه ولو أُخبِر به، ولو أنّ السؤال كان سؤالًا عادًيا في سياق عادي، لتَوقَّع السائلُ شرحًا وتبريرًا من المسؤول، لكن مقام الألوهية لا يجري عليه مثل ذلك، بل لا يُتوقَّع منه مثل ذلك، خاصة ممّن آمن بالله تعالى وعلم مقتضى ذلك الإيمان.
وينبغي التنويه على أنّ سؤال الملائكة في ذلك المقـام يُحمَل على محمل استفهامي لا استنكاري، فهم مُنزَّهون عن الاجتراء على جنابه تعالى، وقد وصفهم الله اتعالى بأنهم {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]، أي: لا يسألونه شيئًا لم يأذن لهم فيه، وكانت مناسبة سؤالهم لِمَا أعلمهم الله تعالى بأنه سيخلُق في الأرض خلقًا تَقدَّم إليهم أنهم يفسدون فيها، فكان سؤالهم سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، فلمّا أجابهم الله تعالى بما أجابهم، انتهوا وتوقفوا عند حَدّ الحدّ وقَدر الجواب المُعطى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 33]، وهذا التوقف لا يُحسِنُه كثيرون بل ولا تسيغه نفوسهم برغم إسلامهم، فتأمل الفارق وافهم حقيقة الجواب الكامن!
المشكلة في نفسيّة المُسائِل وحالة المساءلة قبل ذات المسألة، وفي اضطراب قرار العقيدة في وجدان لا يستشعر لله حق قدره، ثم في مدى تجبّر نبرة السؤال
وتأمل كيف أن الردّ الإلهي عليهم لم يكن فيه عتاب أو زجر عن ذات السؤال، بل إيقاف عند حدود في الجواب، وإنما ينشأ الإشكال حين ينشأ من نبرة المساءَلة بغرض المحاسبة، وما في معناها من تَطلِّب أيّ مَطلَب يراه العبد حقًا مكتسبًا له على الله تعالى: تبرير ليرضى، أو كشف وجه حكمة ليطمئن، أو دليل فوق الوارد بالفعل ليقتنع على وجه مخصوص بك... إلخ؛ لأنّ المشكلة عندئذ ستكون في نفسيّة المُسائِل وحالة المساءلة قبل ذات المسألة، وفي اضطراب قرار العقيدة في وجدان لا يستشعر لله حق قدره، ثم في مدى تجبّر نبرة السؤال التي لعلنا نتردد ألف مرة قبل أن نتوجه بمثلها لمالك من مُلّاك الأرض المجازيين!
فسبحان الله أيها المؤمنون بالله... {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]؟!