انعكاس ظل غزوة الأحزاب على واقعنا المعاصر

الرئيسية » بصائر تربوية » انعكاس ظل غزوة الأحزاب على واقعنا المعاصر
انعكاس ظل غزوة الأحزاب على واقعنا المعاصر سيرين الصعيدي

منذ أن خلق الله الكون وأوجد الإنسان واستخلفه في الأرض ومنذ أن أخذ إبليس على عاتقه مهمة الإضلال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] ومن سنن الله أن يظل الصراع بين الحق والباطل قائمًا لا ينتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها وتجتمع الخصوم في ظل المحكمة العليا وتحسم النتائج هناك؛ لأن الأيام على هذه الأرض دول، والذي لا يطلع على التاريخ ولا على تراث أمته سيظل مغيّبًا عن الحقيقة العظمى وعن غاية الله في خلقه وسننه في الكون، ومن لم يملك عين ناظرة متأملة متدبرة للتاريخ وأحداثه لن يملك عينًا مستبصرة للمستقبل بآماله ولا روحًا متعطشة لإشراقة الفجر في الغد القريب.

لهذا تبرز أهمية دراسة التاريخ وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام دراسة متأنية مستبصرة تقف على أحداثها وتقرأ انعكاساتها في حاضرنا ومستقبلنا، لتجد التقارب بل المشاهد نفسها ينعكس ظلالها من تاريخنا وتراثنا على واقعنا الحاضر، وخذ نموذجًا غزوة الأحزاب دارسًا لأحداثها ومشاهدها لتجدها تلقي بظلالها على قضية فلسطين اليوم، سيَّما أحداث طوفان الأقصى.

غزوة الأحزاب والمجتمع في ذلك اليوم - كفار ومنافقون ويهود، كل منهم محور أساسي في المعركة - لم يأل أيُّ محورٍ منهم جهدًا في استئصال شأفة المؤمنين مقابل هؤلاء مجتمعين، الفئة المؤمنة والقلة القليلة أمام الكثرة الطاغية، وملة الكفر واحدة في كل زمان ومكان، وعداوتها للإسلام ليس بأمر جديد بل عداوة أزلية، وجاءت غزوة الأحزاب لتكون الغزوة الفاصلة والممحصة - بل وقل الفاضحة التي فضحت المنافقين وكشفت حقيقتهم التي طالما حاولوا مواراتها لكن أنّى لهم ذلك - والله بالمرصاد.

تبرز أهمية دراسة التاريخ وسيرة النبي وصحابته الكرام دراسة متأنية مستبصرة تقف عندما تجد التقارب بل المشاهد نفسها ينعكس ظلالها من تاريخنا وتراثنا على واقعنا الحاضر

وتذكر كتب السيرة أنّ سبب الغزوة هو يهود؛ إذ أخذ زعماء بني النضير يحرضون قريشا وغطفان وبعض القبائل على حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يساندونهم في استئصال النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزينون لقريش دينها وأنه خير من دين محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا ديدن يهود الفتنة وإخراج الناس من النور إلى الظلمات، وفيهم نزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]

واستعد المسلمون للحرب وعددهم حينئذ ثلاثة آلاف لمواجهة الجيش الذي بلغ عدده عشرة آلاف مقاتل، وواقع المسلمون وقتها قلة في العدد والجوع والبرد يحاصرهم إذ لا تكافؤ بين الفريقين، والله يصف الواقع في كتابه العزيز: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، وتأمل موقف المؤمن وموقف المنافق من الواقع وفي نظرته للأحداث وفي ظن كل منهما بالله العليّ القدير، فقد ورد في تفسير هذه الآية: "ظنّ المنافقون أن محمدًا وأصحابه يُستأصلون، وأيقن المؤمنون أن ما وعدهم الله حقّ، أنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون" (تفسير الطبري)

اجتماع ملة الكفر والنفاق واليهود كلها عوامل كانت كفيلة أن تزعزع إيمان المسلمين، لكن الإيمان الراسخ في قلب صاحبه وتصديقه لوعد ربه ونبيه يصنع المعجزات، فلم ترهبهم الجموع ولم يعترضوا على تباين العدد والعتاد

اجتماع ملة الكفر والنفاق واليهود كلها عوامل كانت كفيلة أن تزعزع إيمان المسلمين، لكن الإيمان الراسخ في قلب صاحبه وتصديقه لوعد ربه ونبيه يصنع المعجزات، فلم ترهبهم الجموع ولم يعترضوا على تباين العدد والعتاد؛ فالمؤمن الذي يبصر بنور الله يعلم ويتيقن أن هناك أسبابًا أخرى للنصر غير تلك التي في حسبة البشر؛ فثمة أسباب إن أُخذ بها تفوق وتعلو تلك الأسباب المادية التي ينشغل بها كثير من الناس عن أسباب النصر الحقيقية، والتي لا ينبغي لمسلم أن ينشغل عنها وإنما يأخذ بها جنبًا إلى جنب مع تلك الأسباب المادية الظاهرة، ثم ألم يخوضوا معركة الفرقان (غزوة بدر) أولى غزواتهم مع الفارق الجلِيِّ أيضًا بالعدة والعتاد؛ فالمسلم له حساباته التي يبنيها أول ما يبنيها على أنّ النصر بيد الله الذي إن قال للشيء كن فيكون.

وغزوة الأحزاب بجموعها وحشدها كانت صفعة لكل من يعتمد على الأسباب المادية دون اعتماده على الله أولًا وأخيرًا، صفعة كان الأحرى أن يفيق عليها كل من يخرج علينا ويتشدق بالمنطق الذي يزعم سيما في أحداث فلسطين عامة وغزة على وجه الخصوص.

ويستعد المسلمون ويأخذون بالأسباب الدنيوية من تجهيز للجيش وحفر الخندق وإعداد العدة مع بقاء الفارق، ويربط المسلمون على بطونهم الحجارة جوعًا ويحاصرهم العدو وتبلغ القلوب الحناجر والنبي الأكرم يعدهم بكنوز كسرى وقيصر، والمنافقون يرجفون في المدينة ويقولون: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسر وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط" (البوطي: فقه السيرة)، والمنافقون هم أنفسهم منذ عصر النبوة حتى يومنا هذا.

ما أشبه اليوم بالبارحة، تُحاصَر فلسطين (قبلة المسلمين الأولى) وتعاني من ظلم الاحتلال في القرن الواحد والعشرين وقد بلغت الحضارةُ أوجَهَا والعالم الغربي يتشدق بحقوق الإنسان

فما أشبه اليوم بالبارحة، تُحاصَر فلسطين (قبلة المسلمين الأولى) وتعاني من ظلم الاحتلال في القرن الواحد والعشرين وقد بلغت الحضارةُ أوجَهَا والعالم الغربي يتشدق بحقوق الإنسان، وفلسطين بلا كرامة يحيا شعبها ولا أدنى حق يحصلون عليه مما يدعيه الغرب، ترزح تحت عنجهية الاحتلال، وتُحاصر غزة ويقصف فيها البشر والشجر والحجر، وتغتال الطفولة في اليوم العالمي للطفل، ويسفك دمُ النساءِ على مرأى جمعيات حقوق المرأة، وتباد غزة من قبل سلاح العدو والصمت العالمي والعربي من جهة أخرى، ثالوث شيطاني يتآمر علينا من يهود ومنافقي العرب المتخاذلين وكفار حاقدون، ومع كل قصف همجي تسمع مقابله تثبيط من المنافقين وبث الذعر بين الناس والإشارة بأصابع الاتهام والترويج بأنها حرب غير متكافئة أخطأ من دبر لها وخاض غمارها، بل إنّ البعض يرى أنّ السبب الأول والأخير في الإبادة التي تحصل هو الخوض في غمار معركة غير متكافئة، وقد لا يصرح بعضنا بذلك فيكتفي بالهمز والغمز.

لا شيء جديد.. التاريخ يكرر نفسه ونفس خطاب المنافقين يطل علينا اليوم وكأن رأس المنافقين (عبد الله بن أبيّ بن سلول) يُلقي علينا خطابه، ويُشكك بما نثق من وعد ربنا ونبيه الأكرم، فقد قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5]

يأتيك نصر الله في الوقت والكيفية والشكل الذي يقدره الله تعالى؛ فالنصر لا ينحصر في معركة ولا زمان، ولا يشترط أن يكون في حدود هذه الحياة الدنيا

وإن الابتلاء في نقص الأنفس والثمرات والأموال هو سنة من سنن الله في خلقه ليمحص المؤمنين والكافرين: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]، {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، وتذكر قول الله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]، فمنذ متى والمسلم يخوض غمار حرب متكافئة؟! وملة الكفر لن تجد فرصة مواتية إلا وتجمع شملها وتوحد صفها وتحشد الحشود من كل صوب وحدب لتحول بين المسلم ورفع رأسه، تأمل في تاريخ الإنسانية كاملًا وانظر في ثورات التحرير والتخلص من الظلم واستعادة الحقوق كيف كان أنصار الحق فئة قليلة في مواجهة جموع الباطل وكم التضحيات التي تبذل لصون الأعراض والحقوق والمقدسات، وستعلم وقتها أن أحداث غزة غيض من فيض ولم تكن المشهد الأول ولا المعركة الأولى في هذا الصراع الأزلي ولن تكون كذلك المعركة النهائية، إنّ الأخذ بالأسباب مطلبٌ مُهمٌ في إعداد العدة لمواجهة الكفر وأعوانه واسترداد الحقوق من الغاصبين، والأخذ بالأسباب يشمل الجانبين: المادي والمعنوي، وأن تنصر الله تعالى وتصدُقه في نفسك ومجتمعك حتى يتحقق نصر الله لك، وتأمل قول الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]

ويأتيك نصر الله في الوقت والكيفية والشكل الذي يقدره الله تعالى؛ فالنصر لا ينحصر في معركة ولا زمان، ولا يشترط أن يكون في حدود هذه الحياة الدنيا، وهو ما سأتناوله في المقال القادم بإذن الله: حقيقة النصر بين المفهوم الرباني والمفهوم الإنساني.

كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …