من أخطر آفات خطاب الدعوة المعاصر، ومِن آثار اضطراب منظومة التفكير السليم والفكر المسلم: الخلط بين رحابة مساحة التساؤل عن الحق والترحيب بالتفلسف الفارغ في الحق، ويغترّ بذلك الخلط خاصة كثير من الشباب الذي يعاني مشاكل حياتيّة وعُقَدًا فكريّة ونفسيّة، فيطمئنه أن يأتي أحدهم ليكسوها بحُلَل الذكاء وألمعيّة العقلية وأرق البحث عن الحقيقة... إلى آخر تلك الاصطلاحات الطنانة الرنّانة ظاهرًا، الجوفاء الخرقاء باطنًا، صحيح أنّ السؤال من مفاتيح العلم، لكن ذلك لا يعني أنّ كلَّ سؤال محمود أو مطلوب، ولا أنّ كل سؤال موصل للعلم أو متّصل به أو حتى أصل فيه، خاصة حين نتحدث عن العلم بالحقّ.
إنّ الذي أرسى هذا الوجود وموجوداته، هو "الحق" سبحانه وتعالى، ومن مقتضيات ذلك أنّ الله الحقّ قد أحقّ حقائق الوجود وأظهر أسباب تحصيلها للعباد، فلا هي مُلغِزَة ولا هي مُبهَمة ولا هي مُستعصية على الأفهام، وإنما مكمنُ الإشكال كله في الأخلاط والشوائب التي عَجَنت أفهام المسلمين وتصوراتهم عن الإسلام قبل الإسلام، وبالتالي ففضّ تلك الاشتباكات وتخليص ذلك العجين له منهجية وأصول، لا يعيهـا على وجهها الحقّ غالب المربّين والمشتغلين بالدعوة والمتصدّرين للتعليم الديني خاصة، فيقعون في ذلك التلبيس ويُوقِـعون فيه غيرهم، ويُغفِل الكلّ في خِضَمّ ذلك حقيقة أنّ العمر مؤقت، وفرصة العمل بالعلم مرهونة بأجَل، والأجل أَعجَل وأجَلُّ من أن نبعثره في التفلسف حول الحق بدل الاشتغال بالتحقق به!
الله مطلع على حقيقة أحوال العباد، ويعلم سبحانه المُفسدَ مِن المُصلِح، والحائر حقًّا من المتلهّي بالحيرة عبثًا، والجادَّ في تحصيل الحق من المتفلسف المتحذلق
ولا ريب أنّ الله الحقّ مطلع على حقيقة أحوال العباد، ويعلم سبحانه المُفسدَ مِن المُصلِح، والحائر حقًّا من المتلهّي بالحيرة عبثًا، والجادَّ في تحصيل الحق من المتفلسف المتحذلق؛ فهو تعالى وليّ السداد والتوفيق والعفو لأهله، وإنما القصد التنبيه على الشعرة الدقيقة بين السؤال الحق عن الحق، والخوض بالتفلسف الباطل والتعالم الجاهل حول حِمى الحق، وعلى عدم الاغترار بتمدّد باحة التساؤل عن تقلّص ميدان العمل بما بان من جواب، ومن أخَذ بالقليل البيّن عسى يتبيّن له الكثير الخفيّ.
ثم هناك أناس يجادلون لا ليفهموا بل لئلّا ليفهموا، وليثبتوا أنهم فاهمون! وهذا حال المُتعالِمين أو أنصاف المُتعلمين: لا الجهلَ دفعوا، ولا بقليل العلم انتفعوا! فليست كل مجادلات التساؤل أسئلة على الحقيقة، ولا يقصد السائل الاستفهام بها فعلًا، بل أحيانًا – وربما كثيرًا – تكون مناورات عناد من أخذته العِزّة بقليل عِلمه، والحَمِيَّة لكثير جهله!
لا إشكال في أيّة أسئلة ولو خاطئة في ذاتها أو في صياغتها، طالما سُئِلتْ بغرض الفهم الصادق عن الله تعالى وبنبرة الأدب في الطرح والاستقبال، وكان سائلها متسائلًا حقًّا!
تأمل في هذين النموذجين:
- الأول/
دَخَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّمَ - المَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ، فَصَلَّى، فَسَلَّمَ علَى النبيِّ صلى الله عليه وسلَّمَ، فَرَدَّ وقالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، فَرَجَعَ يُصَلِّي كما صَلَّى، ثُمَّ جَاءَ، فَسَلَّمَ علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلَّمَ - فَقالَ: "ارْجِعْ فَصَلِّ فإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ"، ثَلَاثًا، فَقالَ الرجل: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ ما أُحْسِنُ غَيْرَها، فَعَلِّمْنِي... [البخاري]
- الثاني/
أكل رجل عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وَسَلَّمَ - بشِمَالِهِ، فَقالَ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ بيَمِينِكَ، فقالَ الرجل: لا أَسْتَطِيعُ! فقالَ عليه السلام: لا اسْتَطَعْتَ، [يقول الراوي]: ما مَنَعَهُ [من إطاعة الرسول] إلَّا الكِبْرُ، فَما رَفَعَهَا إلى فِيهِ (أي شُلَّت يده فما عاد يستطيع رفعها لِفَمِه)" [مسلم]
فلسفة إشكال الوجود على الشاكلة الأجنبية، أي اتخاذه بحد ذاته مشكلة مُلغِزَة، ثم نتخذ وجودنا في الوجود المشكل مشكلة ثانية، فهذا التفلسف بالباطل الذي يضيع امتحان الحياة في معضلة ميّتة!
كِلا الرجلين في المثالين كان على جهل في أمر، أما الأوّل فعلى كثرة رَدِّ الرسول - عليه السلام - له لم تأخذه العزّة بالإثم والحَمِيّة لنفسه، بل استجاب لأمر رسول الله - عليه السلام - ثلاث مرات، فلما تبيّن له أنه لن يُحسِن العمل بما عنده من علم، طلب التعلم، أما الثاني، فكبُرت عنده نفسه حتى كَبُر عليه كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعانَد استكبارًا فكانت عاقبته ما كانت!
والخلاصة أنه لا كبير إشكال – عامة - في أيّة أسئلة ولو خاطئة في ذاتها أو في صياغتها، طالما سُئِلتْ بغرض الفهم الصادق عن الله تعالى وبنبرة الأدب في الطرح والاستقبال، وكان سائلها متسائلًا حقًّا!
أما فلسفة إشكال الوجود على الشاكلة الأجنبية، أي اتخاذه بحد ذاته مشكلة مُلغِزَة، ثم نتخذ وجودنا في الوجود المشكل مشكلة ثانية، فنصير بذواتنا مشكلين داخل مشكلة، وتتعقد في نظرنا كل أنواع الإجابات وكل سبل الحلول، ونتخذ الإمعان في الاستشكال شغلًا بدل محاولة الفهم، ونحتقر ذوي الرؤى الواضحة والعقول البسيطة التي لا تحسن التفلسف ولا تُفتَن بالإلغاز.. فهذا التفلسف بالباطل الذي يضيع امتحان الحياة في معضلة ميّتة!