إن من وسائل الاحتجاج المشهورة وقت الحروب والأزمات (المقاطعة الاقتصادية)؛ فالمقاطعة من الوسائل التي تتسم بالإبداع وتبتعد عن المواجهة المباشرة؛ فالمقاطعة كما يقال عنها إنها عبادة تَرْكِيَّة صامتة، وأنها ذبح بلا سكين ونار بلا دخان.
والمقاطعة الاقتصادية ليست وليدة عصرنا هذا، بل هي أسلوب من أساليب الضغط والاحتجاج الذي استُخدِمَ على مر التاريخ وفي مختلف الأماكن والقضايا.
والضغط بسلاح المقاطعة لا بد أن يتبع سياسة النفس الطويل؛ لأن الدول والشركات الكبرى تكرِّس أموالًا طائلة ورأس مال ضخم يجعلها لا تتأثر إلا على المدى البعيد، فبعض الشركات العالمية قد تفوق ميزانيتها ميزانية دولة.
ولكي نضمن تفعيل المقاطعة الاقتصادية فلا بد من العمل على تحقيق الوعي الشعبي الشامل بأهمية سلاح المقاطعة، وحث الأفراد على الاستعداد للمزيد من التضحية كلما اتسعت دائرة المقاطعة، فالخصم يعتبر أن مقاطعته اقتصاديًا دربًا من دروب إعلان الحرب عليه، ويعدها حربًا صفرية، النصر فيها للأكثر تضحية والأكثر تحملًا والأطول نفسًا.
بعد سرد هذه الحقائق يمكننا أن نقول بأن المقاطعة الاقتصادية هي نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله؛ فالجهاد له درجات مختلفة، والمقاطعة الاقتصادية تدخل في مفهوم الجهاد بمعناه العام، لما فيها من حرمان النفس من بعض المكاسب والملذات من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين من المسلمين.
أولًا/ الحكم الشرعي للمقاطعة الاقتصادية
إن المقاطعة الاقتصادية سلاح من أسلحة الضغط والردع، والغاية الأساسية من استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية هو إما (جلب مصلحة) أو (درء مفسدة)، فينبغي علينا أن نتأكد من أن المقاطعة الاقتصادية تحقق مصلحة تتمثل في إيقاع الضرر بأعداء الإسلام والنكاية بهم، بشرط ألا يُفضي ذلك إلى مفسدة أعظم من المفسدة التي نسعى لإزالتها أو تخفيفها.
والمقاطعة الاقتصادية تكون واجبة شرعًا في حق:
• أعداء الإسلام الذين حادُّوا الله ورسوله.
• وفي حق من حاربوا الإسلام.
• وفي حق من اجتاحوا بلاد المسلمين وفتنوا الشعوب في دينهم.
إلحاق الضرر بالكفار والمنافقين وإغاظتهم غيظًا موجعًا بأية وسيلة كانت هو نوع من أنواع الجهاد وجائز شرعًا
بعض جوانب التأصيل الشرعي للمقاطعة الاقتصادية:
دعنا نؤكد على أن المقاطعة هي درب من دروب دفع الظلم من أجل الوصول إلى الحق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]
من هنا نعلم أن إلحاق الضرر بالكفار والمنافقين وإغاظتهم غيظًا موجعًا بأية وسيلة كانت هو نوع من أنواع الجهاد وجائز شرعًا.
قال تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة :5]، وقال القرطبي: "(واحصروهم) أي: امنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام، حتى تضيقوا محلهم الواسع"، وقال الشيخ أبو بكر الجزائري: "(واحصروهم): أي حاصروهم"
والحاصل أن الحصار العسكري والحصار الاقتصادي يدخلان في قوله تعالى "واحصروهم"..
إن أقل مظهر من مظاهر الحصار الاقتصادي هو الامتناع عن شراء بضائع العدو، أو منع إجراء أي اتفاقات تجارية معه على الصعيدين الفردي أو الجماعي، ورد في حديث البخاري الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "لَمَّا قَدِمَ ثُمَامَةُ بنُ أُثَالٍ مَكَّةَ قَالَ له قَائِلٌ: صَبَوْتَ، قَالَ: لَا، ولَكِنْ أسْلَمْتُ مع مُحَمَّدٍ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، ولَا واللَّهِ، لا يَأْتِيكُمْ مِنَ اليَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ، حتَّى يَأْذَنَ فِيهَا النبيُّ ﷺ" (صحيح البخاري)، إن ما فعله ثُمَامَة بن أثال من تهديد للمشركين بمنع الحنطة عنهم، شكل من أشكال المقاطعة الاقتصادية لتأديبهم ولكف أذاهم.
لقد أيقن ثمامة أن واضع المعروف في غير أهله؛ كالزارع في السَّبَخ، أو كالمُسْرِج في الشمس، فشرع في منع خيره عنهم تأديبًا لهم.
لقد لقنهم ثمامة الدرس، وأصاب المفَصْل فيهم، وشَل اقتصادهم، وجعل صفو عيشهم رَنَق، وعذبهم أُجاج، وحلوهم صَبْر.، حتى أصابهم الضنك، فأرسل وجهاء قريش إلى رسول الله ﷺ يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام.
أقل مظهر من مظاهر الحصار الاقتصادي هو الامتناع عن شراء بضائع العدو، أو منع إجراء أي اتفاقات تجارية معه على الصعيدين الفردي أو الجماعي
فتوى الشيخ القرضاوي - رحمه الله - بضرورة وأهمية المقاطعة:
في إحدى خطبه عن واجبات الأمة نحو فلسطين توجه فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي بخطاب لمؤتمر القمة الإسلامية التاسع المنعقد في قطر في 12 نوفمبر 2000م فقال: "إن قضيتنا المركزية - يعني فلسطين - لا يُمكن أن تحل إلا بالجهاد، هذا ما علمناه التاريخ، وما علمناه الواقع، والجهاد ألوان وأنواع، منها الجهاد بالمقاطعة، مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية وكل من يؤيد إسرائيل، يجب أن يشعر هؤلاء أن الأمة الإسلامية تعرف من يعاديها ومن يصادقها، من هو لها ومن هو عليها، لا ينبغي أن أُربِّح الذين يقتلون إخواننا وأخواتنا وأبناءنا وبناتنا في فلسطين وأشتري منهم السلعة، ثمن هذه السلعة قد يتحول إلى رصاصة تقتل إخواننا وأخواتنا هناك"
كما قال رحمه الله: "حرام علينا أن نشتري من بضائع هؤلاء، لا يجوز لمسلم أن يدفع لهم درهمًا أو ريالًا أو جنيهًا أو عملة من العملات، كل عملة من هذه، كل ريال يدفع لهم، يتحول إلى رصاصة في صدر أخيك وأختك وابنك وابنتك هناك في فلسطين، أنت إذن بهذا تساعد على قتلهم، فلا يجوز أن تقتل إخوانك، إذا لم تقاتل عنهم فلا تقتلهم، أنت تقتلهم بمالك الذي تشتري به هذه الأشياء، سواء كانت بضائع إسرائيلية أم بضائع أمريكية"
الجهاد أنواع، منها الجهاد بمقاطعة كل من يؤيد إسرائيل، يجب أن يشعر هؤلاء أن الأمة الإسلامية تعرف من يعاديها ومن يصادقها، من هو لها ومن هو عليها
ثانيًا/ ضوابط يجب مراعاتها عند استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية
1. إن المقاطعة حقٌّ مشروع ولا بد أن تكون عملًا منهجيًا مدروسًا دراسة جيدةً، ومخطط له تخطيطًا واعيًا، ومبني على الحُجة الدَّامغة والبرهان القاطع، وألا تتوقف المقاطعة إلا بتحقيق أهدافها كاملة.
2. الحذر من المثبطين والمُرجفين الذين يعملون يوهنون عزائم الناس ويحركونهم باتجاه خذلان القضية، بزعم عدم جدوى المقاطعة.
3. التأكيد على أن النجاح في استخدام سلاح المقاطعة هو أنجح الوسائل لإلحاق الضرر بالخصوم، وأقصر الطرق لتحقيق المُبتغى بأسلوب هادئ وبوسيلة مشروعة لا يترتب عليها مواجهات ولا خسائر كما يحدث في استخدام غيرها من الوسائل.
4. نجاح المقاطعة يترتب عليه الشعور بالثقة لدى المسلمين فيحصل لديهم شيء من الشعور بالعزة الإيمانية.
للمقاطعة الاقتصادية كثير من الفوائد التي تجعل المُقاطِع يشعر بالندية فيكتسب من العزة والكرامة والأنفة ما يجعله يستمر في المقاطعة بل ويصر على خذلان من يُراهنون على خسارته في هذا الشأن
ثالثًا: بعض فوائد المقاطعة الاقتصادية
إن المقاطعة الاقتصادية لها الكثير من الفوائد التي تجعل المُقاطِع - فردًا كان أو حكومة أو شعبًا - يشعر بقوته، كما أنه يشعر بالندية مع من يقاطعه فيكتسب من العزة والكرامة والأنفة ما يجعله يستمر في المقاطعة بل ويصر على خذلان من يُراهنون على خسارته في هذا الشأن، ويمكننا أن نجمل فوائد المقاطعة الاقتصادية فيما يلي:
1. غرس عقيدة الولاء والبراء.
2. تحقيق القاعدة الفقهية التي تقول بأنه "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"
3. التأكيد على أن المقاطعة الاقتصادية نوع من الجهاد الذي تستعين به الأمة (حكومات وشعوبًا وأفرادًا) على نصرة الحق وأصحابه.
4. المقاطعة الاقتصادية لا توزن بميزان المكسب والخسارة المادية فقط؛ لأن المكسب المعنوي وما يترتب عليه من عزة وكرامة واحترامٍ من الآخر لا يُقدر بثمن، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28]
5. التخلص من التبعية للآخر والتحول من شعوب مُستهلكة إلى شعوب مُنتجة.
6. إرباك الخصوم وجعلهم يرضخون لمطالب الشعوب المقاطعة لهم؛ لأنهم يعدون ازدهار اقتصادهم أحد وسائلهم للهيمنة السياسية على الشعوب.
7. تفعيل المقاطعة من الوسائل المهمة لتوفير العملة الصعبة مما يترتب على ذلك النمو الاقتصادي وتحسن مستوى المعيشة.
هذه مجمل فوائد المقاطعة الاقتصادية وبالطبع الفوائد كثيرة ومتعددة.
سلاح المقاطعة ليس بجديد ولا بمُستحدث بل له جذور تاريخية في أماكن مختلفة من العالم كوسيلة من وسائل الضغط، لإخضاع الطرف الآخر والتخلص من صلفه وتعنته
رابعًا/ نماذج من المقاطعة الاقتصادية عبر التاريخ
إن سلاح المقاطعة ليس بجديد ولا بمُستحدث بل له جذور تاريخية في أماكن مختلفة من العالم كوسيلة من وسائل الضغط، لإخضاع الطرف الآخر والتخلص من صلفه وتعنته، وفيما يلي عرضٌ موجز لبعض هذه الأمثلة:
• الخليفة عبد الملك بن مروان يصنع الدينار الإسلامي ويقاطع الدينار البيزنطي
عندما وصل عبد الملك بن مروان إلى الحكم أمر بأن تكتب على ورق البردي الذي يُباع إلى الروم شهادة أن لا إله إلا الله، فهدَّد ملك الروم بأن يسك على نقود الروم التي يستعملها المسلمون ما يُسيء إلى النبي ﷺ!!
هنا غضب الخليفة عبد الملك بن مروان من تهديد ملك الروم فنصحه أحد مستشاريه وهو خالد بن يزيد بضرب النقود بالعربية ومقاطعة النقود البيزنطية، ففعل عبد الملك بن مروان.
وقد أقدم بالفعل على سك الدينار الإسلامي ونقش عليه "سورة الإخلاص" و"لا إله إلا الله"، كما وضع على وجهيه طوقًا كتب عليه "ضرب هذا الدينار بمدينة كذا" و"محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"
كان سك أول عُملة إسلامية سببًا في توتر العلاقة بين الخليفة عبد الملك بن مروان والإمبراطور البيزنطي "جستينيان"، الذي كان يرى أن سك العُملة حكر له ولبلاده.
وبالرغم من ذلك فإن سك الدينار الإسلامي كان سببًا في ازدهار اقتصاد الدولة الأموية، ودعم استقلاليتها عن الدول المجاورة وتقوية سيادتها.
• مسيرة الملح في الهند عام 1931م
نظّم غاندي ومعه 79 فردًا من أتباعه بمسيرة قطعوا فيها مسافة قدرها 300كم استمرت لبضعة أسابيع متواصلة لم يستريحوا خلالها إلا يوم الاثنين من كل أسبوع؛ وذلك من أجل هدف محدد، وهو استخراج الملح بأنفسهم من أجل مقاطعة الملح البريطاني، وقد أدى هذا التصرف من غاندي ومن معه إلى أن اضطرت بريطانيا إلى توقيع "معاهدة دلهي" عام 1931م، التي كلنت مُذِلَّة لبريطانيا بحق.
حين تستمر المقاطعة بمفهومها الشامل والصحيح فإن العدوَّ لن يسَعُه إلا أن يرضخ لمطالب المقاطعين ويغيِّر من موقفه وسياسته تجاههم
• مقاطعة الشعب المصري للاحتلال الانجليزي
في أوائل عام 1922م قام الزعيم المصري سعد زغلول بتوجيه نداء إلى المصريين دعاهم فيه إلى مواصلة النضال ضد الاحتلال البريطاني.
وفي 23 يناير 1922م أصدر حزب الوفد قرارًا بتنظيم مقاومة سلمية ضد السياسة البريطانية تشمل (قطع العلاقات الاجتماعية مع الانجليز، وامتناع السياسيين المصريين عن تشكيل الوزارة، ومقاطعة التجارة والبنوك والسفن وشركات التأمين الإنجليزية)، وغير ذلك من الوسائل التي كبدت الاقتصاد الانجليزي خسائر فادحة.
• الملك فيصل يستخدم سلاح المقاطعة ضد الكيان الصهيوني
استخدم الملك فيصل - رحمه الله - سلاح المقاطعة الاقتصادية ضد الكيان الصهيوني في أعقاب حرب 1967م وأثناء حرب 1973م، فقد أعلن حظر البترول السعودي عن بريطانيا والولايات المتحدة، واتسعت دائرة المشاركة في هذه المقاطعة حين انضمت لها دول الخليج مما أثر على مُجريات الأمور لصالح مصر والدول العربية.
هذه مجرد نماذج بسيطة من نماذج المقاطعة التي حدثت في عصور وأزمنة مختلفة حول العالم، والنماذج أكثر من أن تذكر في موضوع كهذا، وما الحملات التي أطلقها المسلمون حول العالم لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية والفرنسية والدنماركية عنا ببعيدة ولا بخفية.
أخيرًا أقول:
إن المقاطعة حين تستمر بمفهومها الشامل والصحيح فإن العدوَّ لن يسَعُه إلا أن يرضخ لمطالب المقاطعين ويغيِّر من موقفه وسياسته تجاههم، والمقاطعة قد أذلت الامبراطورية البريطانية في الهند، وأذلت أمريكا في عُقر دارها.
للمزيد في نفس الموضوع أرشح قراءة المقالين التاليين:
المقاطعة الاقتصادية قتل بلا سكين وحرق بلا دخان - الجزء الأول
المقاطعة الاقتصادية قتل بلا سكين وحرق بلا دخان - الجزء الثاني