إن التسليم لله تعالى لا يدعو أبدًا للتخاذل والإخلاد للأرض، بل هو الباعث على القوة والثبات وحسن العمل.
ذلك أنَّ تسليم الرضى لله تعالى يعني سلامة قلب المسلم وصدره تجاه ربه، وفهمه لطبائع هذا الوجود وسننه وغايته كما أراده الله تعالى وإذعانه لذلك، فلا يسخط على كون هذه الدار دار اختبار ولا على أنّ الله تعالى خلقه، أو اختار له زمانًا و سياقًا غير الذي كان يرجو.
كذلك لا يعني الرضى عن الله تعالى وتقديره اتخاذ ذلك حجّة للتقاعس وترك العمل وفتور الهِمّة، بل وإقرار كلّ ما يجري حول العبد، معروفًا كان أم مُنكرًا، بحُجّة أنه قَدَر مكتوب! ولا هو ينافي إصلاح المعوّج من السعي أو مراجعة النفس في تقصيرها، بحجّة أنّ خاتمته مقرّرة عند الله تعالى!
فتلك كلها مساحات حركة العبد في عبوديته، والتصرّف مع مختلف الأقدار والأحوال - التي تقع بأمر الله تعالى - على الوجه الذي أمَرَ به الله تعالى.
من النماذج القدوة في التسليم لأمر الله تعالى التي حكاها لنا القرآن: قصة السيدة مريم عليها السلام
والتسليم لله تعالى في أقداره نوعان:
1. استسلام قهريّ اضطراري: سببه كونك مخلوقًا لله تعالى مملوكًا له مأمورًا بأمره، وهذا يجري على كل مخلوقات الله تعالى، يستوي في ذلك من آمن أو كفر، ومن رضي أو سخط.
2. تسليم شرعيّ طواعية: سببه كونك مؤمنًا آمنت بالله تعالى ورَضِيته ربًا، وعلمتَ صفاته وفهمت عنه سننه، فأسلمتَ إليه نفسك وأمرك ثقة به وطمأنينة إليه، فهذا تَخَلٍّ إرادي واعٍ مقصود عن إرادتك؛ لأنك تُودِعها في إرادة أعلى، هي إرادة ربّك الذي آمنت به وارتضيتَه إلهك.
ومن النماذج القدوة في التسليم لأمر الله تعالى التي حكاها لنا القرآن: قصة السيدة مريم عليها السلام، تأمّل لما جاءها سيدنا جبريل عليه السلام يُبشّرها بهبة سيدنا عيسى عليه السلام: {قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} [مريم: 20]، لقد جاء سؤالها على وجه العجب من جهتها، لا على وجه الاستبعاد عن قدرة الله تعالى أو الاعتراض عليه؛ لأنّ تصورها لحضور غلام بُنِي تلقائيًا على ما هو معتاد من اجتماع ذكر بأنثى أوّلًا، وذلك لم يقع معها، فلا هي بذات زوج ولا يُتَصوَّر منها الفجور، فانظر ماذا كان جواب الله تعالى لها: {قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 21]
وفي موضع آخر: {قالَ كَذَٰلِكِ الله تعالى يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]، لقد بدأ الجواب بالمشيئة الإلهية وانتهى بها في الآيتين، أي أنّ أمر الله تعالى مقضيّ واقع لا محالة لا يَنتظِر إذنًا من أحد، رَضِي مَن رَضِي وله مِن الله تعالى الرضا، وسَخِط مَن سَخِط وله مِن الله تعالى السُّخط، وفي إحدى الآيتين فقط ذُكر لها وجه الحكمة صريحًا، وبُيِّن لها المراد من نفخ تلك الروح فيها: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا}، وذلك لطف من الله تعالى وإيناس لقلبها، لكن تَعُود الخاتمة فتؤكّد {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}، فكان استفهامها عليها السلام استعلامًا بأدب.
مما يهوّن على المرء وقع الابتلاء تذكرة النفس بحقيقة مغفول عنها، وهي أنك لستَ المُبتلى الوحيد في أيّ سياق، وإن تفاوتت صور الابتلاء
ولذلك كان فعلها بعد ذلك تسليمًا بإذعان، برغم وطأة الأمر عليها حتى تمنّت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} [مريم: 23]؛ وذلك لأنها "... عَرفَت أنها ستُبتلى وتُمتحن بهذا المولود الذي لا يَحمِل الناس أمرها فيه على السَّداد، ولا يُصدِّقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنّون عاهرة زانية..." [تفسير الطبري]، إلا أنّ الله تعالى صبَّرها وواساها، وهي عليها السلام استجابت بالامتثال والصبر لأمر الله تعالى.
ومما يهوّن على المرء وقع الابتلاء تذكرة النفس بحقيقة مغفول عنها، وهي أنك لستَ المُبتلى الوحيد في أيّ سياق، وإن تفاوتت صور الابتلاء، واختصاصك بابتلاء لا تجد في محيطك من يشابهك فيه لا يعني أنك ستنتهي بالضرورة لهاوية سحيقة لأنك لست محاطًا بفريق إنقاذ جاهز لانتشالك! لذلك حاذر من أن تتخذ الغم في ذاته عملًا، وابتعد تمامًا عن العزف الانفرادي على أوتار الوحشة والغربة والوحدانية، ودراما الاكتئاب والتخاذل والشعور بالرثاء لنفسك، فما أنزل الله تعالى من ابتلاء في الدنيا إلا وجعل له فرجًا، والفرج هنا مطلق الدلالة على أية صورة أو هيئة يجعل الله تعالى بها وفيها الفرج، ولو أن يبُرِّد صدر المبتلى ويقذف فيه سكون التسليم والرضا.
وتأمل في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله تعالى ۗ وَمَن يُؤْمِن بِالله تعالى يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَالله تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله تعالى}: أي بعلمه وقضائه، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله}: ومن يُصدّق بالله تعالى فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة إلا بإذن الله تعالى، {يَهْدِ قَلْبَهُ}: يوفِّق الله تعالى قلبه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.