الاحتساب هو طلَب الثواب من الله تعالى، فيما يعمله المسلم من عمل سواء كان فرضًا أو تطوّعًا، وكذلك فيما يصيبه من مصائب، ولا بدّ أن يريد المسلم وينوي وجه الله تعالى، وإلا لا يدخل في وعد المثوبة من كان ذاهلًا غافلًا عن نيّة الاحتساب وطلبه؛ ففي الحديث: "إذا أصاب أحدَكم مصيبةٌ فليقُلْ: إنا لله تعالى وإنا إليه راجعون، اللهم عندَك أَحتَسِبُ مُصيبَتي، فأَجِرْني فيها، وأَبدِلْني بها خيرًا منها" [السيوطي وأبو داود]، والمصيبة هي كل ما يصيب الإنسان مما فيه كراهة له وتأذٍّ منه ولا قُدرَةُ له على دَفْعِه.
ومعنى ذلك الدعاء: إقرار يا ربّ بأننا مَملوكون وعَبيد لك، وإليك عزَّ وجلَّ نَرجِعُ في حَوْلِنا وقوَّتِنا، وعندك يا ربّ نحتسب ما أصابنا وإياك نسأل أن تجعل لنا فيه أجْرًا وثَوابًا عندَك في الآخرة، وأن تُبدِلْ تلك المُصيبَةَ الَّتي وقعَتْ بنا بنعمَةٍ خيرًا مِنها وأفضَلَ في الدُّنيا؛ فالدعاء جامع لِخَيْرَي وعَزاءَيْ الدنيا والآخرة مع حفظ أدب العبودية والتسليم، وهو بذلك أعظم تسلية وسُلوان لكل مصاب ومحزون، "إنا لله، وإنا إليه راجعون"
"إنا لله، وإنا إليه راجعون" كلّ شيء كما كان منه سبحانه ابتداء فهو إليه راجع؛ فنحن وما نملك وما نحب وما نجمع مِلك لله، عاريّة مردودة له تعالى، والإعارة مؤقتة مهما طال أَمَدها
لذلك كانت ملازمة هذا الدعاء من ركائز التثبيت وقت النازلة أو المصيبة؛ إذ هو ليس عزاء وشفاء يمسح على القلوب المنكسرة فحسب، بل قوة تَجبُرها كذلك، إنه اعتراف وإقرار بأنك وما أُصِبتَ فيه من فقد مال أو أهل أو بعض نفس، كلّ ذلك كما كان منه سبحانه ابتداء فهو إليه راجع؛ فنحن وما نملك وما نحب وما نجمع مِلك لله، عاريّة مردودة له تعالى، والإعارة مؤقتة مهما طال أَمَدها، فلا لا خلود ولا تمام ولا بقاء ولا كمال في الدار الدنيا، وقد أنبأنا ربّنا تبارك وتعالى وأعلمنا مُسبقًا أننا مُبتلون بشيء من النقص في المال والأنفس والثمرات في هذه الدار: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]
وبالإضافة لما يرجوه المسلم من ثواب فيما يصيبه، فإنّ من نِعَم المِحَن التي يحتسبها كذلك تكفير الخطايا والسيئّات التي لا يخلو منها حَيّ بدرجاتها: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ (التعب) وَلا وَصَبٍ (الوجع الدائم أو المرض) وَلا هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كَفَّر الله تعالى بهَا مِنْ خطَايَاه" [متّفق عليه]، ثمّ تكون رِفعَة وتطهيرًا: "فما يبرَحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يمشيَ على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ" [الترمذي] ولذلك عند عيادة المريض - والمرض نوع ابتلاء – كان الدعاء: "لا بأس، طَهور إن شاء الله تعالى"، أو "كفّارة وطَهور"، أي: لا خوف عليك أو لا تجزع ممَّا تَجِدُه من وجع، بل يُكفِّر الله تعالى به ذُنوبك، ثمَّ يُفرِّج عنك، فيَجمَع لك الأجرَ والعافية، ففيه تَعزِيَة للمريض بتذكيره بالثواب الكامن في ثوب المرض، وتَذكيرُه بالكفَّارة لذُنوبِه وتطهيرِه من آثامِه إذا صبر واحتسب؛ لئلَّا يَسخط على أقدار الله تعالى أو يفوته اغتنام فرصة الأجر والتكفير.
ليس في الدنيا جزاء أَوْفَى حقيقة، وإنما كلّ جزاء هو امتحان جديد، سواء كان نعمة أم ابتلاء، حتى تُوضَع الموازين القِسطُ ليوم القيامة
فلْتَرْضَ النفس ولتطمئنّ الروح، ولتستأنس بقولة سيدنا عُروة بن الزبير - رضي الله تعالى عنه - في ابتلائه، كما جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير، إذ ابتلي في يوم واحد بوفاة أحب أولاده إليه وقطع إحدى رجليه، فقال: "اللَّهمّ لَكَ الْحَمْدُ، كَانُوا سَبْعَةً فَأَخَذْتَ وَاحِدًا وأبقيت ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا وأبقيت ثلاثة، فَلَئِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ فَلَقَدْ أَعْطَيْتَ، وَلَئِنْ كنت قد ابتليت فقد عافيت"
وأذكر ختامًا أنه ليس في الدنيا جزاء أَوْفَى حقيقة، وإنما كلّ جزاء هو امتحان جديد، سواء كان نعمة أم ابتلاء، حتى تُوضَع الموازين القِسطُ ليوم القيامة فلا تُظلَم نفسٌ شيئًا ولو مثقال ذرَّة، لذلك تَنَزَّه تمامًا عن مساءلة ربّك باللسان أو الوجدان، فالله تعالى لا يُسأل عما أعطى أو أخذ، ولا يُحاسَب سبحانه فيمَ منح أو منع.
وإلى ربنا المُسْتَقَرُّ.. فالحمد لله تعالى الذي لا تضيع عنده مَظْلَمَة، ولا تُظلم مَكْرَمة