أنواع التساؤلات (2) ما لا ينفعك سؤاله ويَضرُّك الاشتغال به

الرئيسية » خواطر تربوية » أنواع التساؤلات (2) ما لا ينفعك سؤاله ويَضرُّك الاشتغال به
أنواع التساؤلات (2) ما لا ينفعك سؤاله ويَضرُّك الاشتغال به - هدى عبد الرحمن النمر

صحيح أنّ السؤال من مفاتيح العلم، لكن ذلك لا يعني أنّ كلَّ سؤال محمود أو مطلوب، ولا أنّ كل سؤال موصل للعلم أو متّصل به أو حتى أصل فيه، خاصة حين نتحدث عن العلم بالحقّ، لذلك يفيد السائل والمسؤول أن يكونا على بَيّنة من أنواع الأسئلة التي تَعرض لهما، إذ في معرفة التصنيف أولى درجات الجواب.

في مقالة سابقة، تعرضنا لـ:

النوع الأول/ ما لا يَحقّ للعبد سؤاله

وفي هذه المقالة نستعرض:

النوع الثاني/ ما لا ينفع العبد سؤاله ويَضرُّه الاشتغال به

وهي البحث فيما لم يأذن الله تعالى لنا بعلمه، والتنقيب الفارغ في مجهولات غيبية أو مُحالات عقلية على شاكلة المتفلسفين الأجانب!

وتجد في صحيح البخاري مثلًا بابًا كاملًا بعنوان: (باب ما يُكرَه من كثرة السؤال وتكلّف ما لا يعنيه)

وفي صحيح مسلم مِثله بعنوان: (باب توقير النبي وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه أو لا يَتَعلّق به تكليف وما لا يقع)

وفي مثل تلك العناوين بلاغ عن المضمون، واللبيب بالإشارة يفهم!

لا ينفع العبد البحث فيما لم يأذن الله تعالى لنا بعلمه، والتنقيب الفارغ في مجهولات غيبية أو مُحالات عقلية على شاكلة المتفلسفين الأجانب!

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُ: "نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ" أي: كَثْرَةَ السُّؤَالِ وَالْبَحْثَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْغَامِضَةِ الَّتِي لَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهَا وَالْأَخْذَ بِظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ وَقَبُولَ مَا أَتَتْ بِهِ. [لسان العرب]

ومن أمثلة أسئلة هذا الصنف: كيف الله تعالى؟ كيف عَرشُه؟ كيف استواؤه على العرش؟ وما شاكلها من أسئلة تدقيقية في الذات الإلهية؛ فالمسلم مُطالَب بمعرفة الله تعالى على الوصف والهيئة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويُمِرّها كما جاءت ويؤمن بها على ما وَرَدت، ويثبت ما أثبته الله تعالى جل وعلا لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدون إقحام نفسه في تفاصيل كيف ومتى وماذا، أو الخوض فيما لا طاقة لمخلوق بتصوّره.

ووَرَد في الأثر أنّ الإمام مالك - رحمه الله - لمّا سُئل عن كيفية استواء الله تعالى على العرش، أجاب: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" [القرطبي – "الجامع لأحكام القرآن"، الذهبي – "تذكرة الحفاظ"]

تأمّل كيف أننا أُمِرنا بالاستعاذة من الخاطر نفسه، وكيف أنه نبت شيطاني وإنْ صِيغَ بصيغة سؤال ذهني، ثم وُجِّهنا للانتهاء عنه فورًا، أي قطع التفكير فيه أو التنقيب وراءه أو تطلّب جواب له

وقد وردت أحاديث ترشد المؤمن بالفعل للتعامل مع مثل تلك الأسئلة، منها: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِالله وَلْيَنْتَهِ" [مسلم]، فتأمّل كيف أننا أُمِرنا بالاستعاذة من الخاطر نفسه، وكيف أنه نبت شيطاني وإنْ صِيغَ بصيغة سؤال ذهني، ثم وُجِّهنا للانتهاء عنه فورًا، أي قطع التفكير فيه أو التنقيب وراءه أو تطلّب جواب له.

كان من دعاء المصطفى عليه السلام: "اللهمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ" [مسلم]، وفي حديث آخر "كَانَ الله وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ..." [البخاري]

وتأمل في هذا الحديث.. عن المصطفى عليه السلام: "عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رسول الله كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ نَبِيُّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟!" [البخاري]، وفي رواية: "إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ"، فتفكّر جيدًا – أيها المسلم – في ردّ نبيّك المُحكم والموجَز.

وانظر كيف أنّ حسن الفهم وسلامة الصدر يقومان على فصل جهة الرب وجهة العبد، لا على الخلط الأَرْعَن والتحذلق الجاهل بينهما!

لا سبيل لمعرفة الأمور الغيبية والمتعلّقات الإلهيّة فوق ما قد أَطلَعنا الله تعالى عليه وأخبرنا به رسوله ولا يمكن أن يقف مخلوق فيها على حقيقة أو يَبلُغ حقًا فوق ذلك

الخلاصة

على المسلم اليوم أن يقف عند ما آتاه الله تعالى ورسوله، ولا يجوز له توسُّع، ويكون من الشاكرين على ما ارتضاه له ربّه من دينه وما أكمله له من تشريع.

ومن يَحتجّ بأنّ الناس كانوا يسألون النبي - عليه السلام - أسئلة من النوعين السّابِقَيْن، ولم يُخطِّئهم عليه السلام في أسئلتهم، أو يزجرهم عن السؤال فيها؛ جوابه أنّ تلك الأسئلة سُئلت وقتَ نزول الوحي وفي حياة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ولكن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي، لا سبيل لمعرفة الأمور الغيبية والمتعلّقات الإلهيّة فوق ما قد أَطلَعنا الله تعالى عليه وأخبرنا به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن أن يقف مخلوق فيها على حقيقة أو يَبلُغ حقًا فوق ذلك.

وبالتالي فالاستمرار في التفريع على تلك الأسئلة وطلب التوغّل فيها تحت أي مُسمّى معرفي أو بأيّة حجّة علمية، هو في الحقيقة عبثٌ وتجاوُزٌ وبِدعة ليس إلا، وعلى ذلك كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوقف السائلين عند حدود الأدب وجهة العبد بحكمة وحزم معًا.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

العلمُ في زمن الجِهاد

لطالما كانت هذه المُفارقة الكبيرة بين جُهد العالِم وجُهد المجاهد، موضع مفاضلة دائمة عبر التاريخ. …