صحيح أنّ السؤال من مفاتيح العلم!
لكن ذلك لا يعني أنّ كلَّ سؤال محمود أو مطلوب، ولا أنّ كل سؤال موصل للعلم أو متّصل به أو حتى أصل فيه.
خاصة حين نتحدث عن العلم بالحقّ، لذلك يفيد السائل والمسؤول أن يكونا على بَيّنة من أنواع الأسئلة التي تَعرض لهما؛ إذ في معرفة التصنيف أولى درجات الجواب.
في مقالات سابقة، تعرضنا لـ
النوع الأول/ ما لا يَحقّ للعبد سؤاله
والثاني/ ما لا ينفع العبد سؤاله ويَضرُّه الاشتغال به
تَعظُم المصيبة حين تكون الأسئلة عن مسائل ومفاهيم ضرورية بغيرها يتعذّر أن يكون المسلم اسمًا مسلمًا حقًّا
وفيما يلي:
النوع الثالث من التساؤلات/ ما يجب على العبد سؤالها ويَضرُّه تركُها
وهي الأسئلة المتعلّقة بعلوم الدين والدنيا، ومما يجب أنْ يَعِيَه كل مسلم أنّ النهج السائد في معرفتنا بالدين من طريق الوراثة الأسرية والتقليد العُرفي والمعلومات المتناثرة، بخلاف أنّه يشوّه وَعي المسلم بالدين ويشوّه الدين في وعي المسلم، فإنه قاصر جدًّا ومحدود جدًّا، فنحن نكبر وتتسع همومنا وتتسع حركتنا في الحياة، ويظلّ علمنا بالدين ضيّقًا سطحيًّا، قاصرًا عند خطواته الأولى، ومن المُذهل والمؤسف معًا كَمُّ المسلمين الذين يَمضُون في حياتهم وينفقون أعمارهم طاوين قلوبهم على أسئلة وحيرات واستكشالات، كثير منها متعلق بمسائل حياتية دوريّة وفتاوى أحوال شخصيّة وشبهات فكريّة وذبذبات تطبيقية، لا يكفي مخزون صاحبها من الفهم السطحي والعُرف المتوارث في حلّها، المصيبة أنّ حامل تلك النفسيّة المُقلقلة لا يَعنيه بصدق ما يُعانيه! فلا يخطر له أن يُكلِّف نفسه الاستفهام الجادّ عما يُشْكِل عليه، ولا يفكّر في البحث المثابر عن جواب حتى يهديه الله تعالى له، بل يمضي عمره على جهله، حاملًا طنين الشك في أذنيه، وعِلكة الشبهات في فمه، قانعًا بهما كتفسير وذريعة، حتى تصير بِنيته الفكريّة والوجدانيّة مُصمَتة على ذلك التشوّه وهذا الاضطراب، فلا ينفع معها دليل ولا تؤثر فيها حجُّة ولا يتخللها نور، إلا أن يتغمدها الله تعالى برحمته!
وتَعظُم إصابة المصيبة حين تكون الأسئلة عن مسائل ومفاهيم ضرورية بغيرها يتعذّر أن يكون المسلم اسمًا مسلمًا حقًّا، مثل معنى الافتقار لله وحسن الظنّ به تعالى، أو آداب الدعاء وحدوده، أو معاني آيات وأحاديث... وغير ذلك من عجائب الرضا بالجهل أو اللامبالاة بمعرفة الإسلام الذي يدين به صاحبه ويحاسَب على أساسه أمام الله تعالى، في مقابل "الفضول المعرفي" تجاه كل ثقافات الأرض وفلسفات البشر!
والدّاهية المترتبة على ذلك أن نتأقلم تلقائيًّا ولا شعوريًّا مع واقع انفصام الدين عن الدنيا، ولا ننتبه أنه انفصام ديننا نحن – أي معرفتنا بالدين – عن دنيانا نحن، وبالتالي لا يخطر لنا في مختلف مفترقات الحياة أن نسأل أصلًا عن حكم الشرع أو الشارع في أمر ما، بل لا يخطر لنا أصلًا أنه يمكن أن يكون للدين صلة "حقيقية" بشؤون الدنيا ومفترقاتها لنفكّر في مراجعته!
إنّ أكثر ما ينزع عن المعلم رساليّته أن يظنّ أنه قد أحاط بالعلم، وأنّ كونه معلّمًا لغيره ينفي كونه متعلّمًا في نفسه
وأما المقصود بعلوم الدنيا فهو تعلم العلم المختصّ بحال كل فرد، وليس مجرد التنقّل في المراحل التعليمية الدراسية، فالمزارع يتعلم الفلاحة، والمُعلّم يتعلم منهجيات التعليم، والمُقبلان على الزواج يتعلّمان فنون الوِصال والعشرة، والوالدان يتعلمان نهج التربية، والموظف يتعلم إدارة عمله... إلخ، ومن الظواهر الخطيرة في علوم الدنيا ظاهرتان:
الأولى/ الاشتغال بعلوم لا تنفعك في دنياك أنت، لمجرد أنّها تدخل ضمن علوم الدنيا المتعارف عليها
إذ مهما يَكُن علم ما في ذاته نافعًا، فليس كلّ علم نافعًا لكلّ أحد بالضرورة، والعمر لا يَسَع الإلمام بكلّ المعارف، ولا كلّ المعارف تُطلَب بنفس درجة التّمَكّن.
الثانية/ عدم العناية بطلب العلم المنهجي المختصّ بمعاملات سياقك
باتباع نهج "ترك نفسك للحياة" تعلمك، واعتبار حسن الأداء موهبة فطرية أو غريزة بدهية، فلا عجب أن تتحول كثير من الأدوار والمهن الحياتية لسَوَاقٍ يدور فيها العاملون متوارثين نفس الأخطاء بنفس الرتابة، ثم تكون الشكوى من وتيرة الحياة وهُمودها، وإنما الإشكال في ركود الأحياء وبلادتهم!
الوالديّة – مثلًا – دور وجوديّ لن يتغير في ذاته، ولن يتغير أصل حيثياته وطبيعة مشاغله وتطورات مراحله العامة، لكن الوالدان هما المنوط بهما تهيئة نفسيَهِما وتعليمهما الفنون والمهارات والعلوم التي يبتغيان غرسها في النشء، فينعكس كلّ ذلك بالتجديد والترقي في روح التربية وأدائهما لدورهما، ثم في أثرهما في أولادها، وإليك مثالًا آخر، كيف يمكن أن يَمَلّ معلم أو يتحول التعليم عنده لروتين؟! قد يكون هذا مفهومًا في حق المُدرِّس الوظيفي؛ لأنه تحجَّرَ في قالب المنهج المَدرسيّ والكلمتين في المُقرر الدّراسي، فلا يعرف سواهما ولا يَقدِر على تعليم غيرهما، أما المعلم حقًا فهو كل يوم في شأن: من تجديد علمه على المستوى الشخصي في شؤون دِينه ودُنياه، وملء إنائه باستمرار؛ لكي يتمكن من أن يفيض به على من حوله، وتطوير مهارات التعليم والتواصل وآداب الحوار والتعامل، والتعلم عن دهاليز النفس ومشكلات الفئات العمرية التي يتعامل معها، فضلًا عن أن رساليّته تدفعه لتوسيع مجال اطّلاعه الثقافي ليتجاوز الاختصاص العلمي وبالتأكيد القالب الوظيفي المقرر، فيقود أنشطة طلابية وجلسات استشارة وحملات توعية، وإنّ أكثر ما ينزع عن المعلم رساليّته أن يظنّ أنه قد أحاط بالعلم، وأنّ كونه معلّمًا لغيره ينفي كونه متعلّمًا في نفسه.
إنّ أيّ عمل في أيّ مجال يمرّ بمنحنى يتناسب فيه طرديًّا مقدارُ ما تتعلم من جديد مع ارتفاع جودة أدائك
وقل مثل ذلك عن أي دور أو مهنة أو مشغلة في الحياة، فهي تحيا وتنمو بقدر ما يَنفُخ فيها مؤدّيها من روح وجدانه ويبث فيها من بنات فكره، وإنّ أيّ عمل في أيّ مجال يمرّ بمنحنى يتناسب فيه طرديًّا مقدارُ ما تتعلم من جديد مع ارتفاع جودة أدائك؛ لأنّ كلّ علم جديد تضيفه يفتح أفقًا، وكلّ أفق يمثّل تحديًا، وكلّ تحدٍّ يصحبه شغف جديد، لذلك يُخفِق من يُقبِل على مختلف المشاغل مُستمدًا من ذاتها الجامدة تحقيق ذاته الحيَّة وخلق معانيها له، فالحَيّ هو من يُسبغ من حياته ومعاني حياته على الجامد لا العكس!
"العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تَكبَّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث عَلِم أنه لا يَعلَم" [د. بكر أبي زيد – "حِلْيةُ طالِب العلم"]