صحيح أنّ السؤال من مفاتيح العلم!
لكن ذلك لا يعني أنّ كلَّ سؤال محمود أو مطلوب، ولا أنّ كل سؤال موصل للعلم أو متّصل به أو حتى أصل فيه.
خاصة حين نتحدث عن العلم بالحقّ، لذلك يفيد السائل والمسؤول أن يكونا على بَيّنة من أنواع الأسئلة التي تَعرض لهما؛ إذ في معرفة التصنيف أولى درجات الجواب.
في مقالات سابقة، تعرضنا لـ
النوع الأول/ ما لا يَحقّ للعبد سؤاله
والثاني/ ما لا ينفع العبد سؤاله ويَضرُّه الاشتغال به
والثالث/ ما يجب على العبد سؤالها ويَضرُّه تركُها
وفي هذه المقالة
النوع الرابع والأخير/ ما ينفع العبد سؤاله لكن لا يعنيه قبل أوانه (وقد يَضرُّه)
وهي أسئلة نافعه متعلقة بأمور الدين أو الدنيا، لكنّ المذموم فيها الاشتغال بها في غير أوانها وعلى حساب أمور أوْلَى، كاشتغال المبتدئ في تعلم الدين بالأصول قبل الفقه، وبالمنطق قبل العقيدة، وبعلوم القراءات قبل أساسات التجويد... إلخ، أو كاشتغال الأعزب بالمطالعة في معارف الأزواج، واشتغال المخطوبين بالمطالعة في تربية الأبناء قبل تمام المعارف المتعلّقة باختيار شريك الحياة والتأهيل للزواج أوّلًا، ولا يعني ذلك تَحجُّر المرء وعدم إلمامه بمعارف لا تختصّ بحاله مباشرة، لكنه يعني الحكمة في قَدْر ما يأخذ وما يَدَع، مثلًا ثَمّة قدر من العلم الفيزيائي بطبيعة كل جنس وخصائصه وتغيّراته مطلوب معرفتها من الجنسين عن نَفسَيْهما ونفس الآخر، ليتعامل المرء مع نفسه أولًا، ثم مع أفراد محيطه بحسبه: أسرة، أقارب وظيفة...
يلزم التوقف عن مسألة الوساوس التي تخلق في ذهن صاحبها أسئلة توهّميّة، ويفضّل الجهر بالوساوس والشكوك باعتبارها شبهات وجيهة يلزم التوقف عندها
والجهل بهذا القدر من العلم ضار ويترتب عليه الكثير من التوترات في العلاقات، منشؤها الجهل بطبائع الخلقة والخلائق ليس إلا، كما أنّ العلم بما فوق تلك المرحلة لمن لم يكن من أهلها - كالدخول في تفاصيل المعاشرة الزوجية مثلًا - ضارٌّ أيضًا؛ لأنه سيفتح أبواب تخيّلات ويُهيّج تعطّشًا شهوانيًّا قبل أوانِ إروائه بالحقّ.
وها هنا يلزم التوقف عن مسألة الوساوس التي تخلق في ذهن صاحبها أسئلة توهّميّة، وقد يستشهد البعض بالحديث التالي للدلالة على "فضل" الجهر بالوساوس والشكوك باعتبارها شبهات وجيهة يلزم التوقف عندها والبحث فيها: "جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ" [مسلم]، وفي رواية "مَحْضُ الإيمان"، لكنّ "صريح الإيمان" المقصود في الحديث هو "استعظام" الوساس، لا ذات الوساوس ولا "شجاعة" المجاهرة بها في تحدٍّ يُطالِب بدحضها لمن يقدر! وفي شرح النووي على مسلم: "فإنّ استعظام هذا وشِدَّة الخَوْفِ منه ومن النُّطْقِ به - فَضلًا عن اعتقاده - إنّما يكون لمن اسْتَكْمَل الإيمان استكمالًا محققًا، وانتفت عنه الريبة والشكوك"
"فصريح الإيمان هو الذي يمنع من قبول ما يلقيه الشيطان في نفس المؤمن والتصديق به، وليس معناه أنّ الوسوسة نفسها صريح الإيمان، وذلك أنها إنما تتولّد من فعل الشيطان وتَسوِيله، فكيف تكون إيمانًا صريحًا؟! لأنّ الإيمان: التيقن، وإنما الإشارة إلى أنّ ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبهم على ما وقع في نفوسهم: هو محض الإيمان؛ إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه" [الخطّابي – "معالم السنن"]
"تعاظم الوسوسة هو محض الإيمان، لا ذات الوسوسة" [ابن دقيق العيد – "شرح عمدة الإحكام"]
كلما عَرَض للمؤمن عارض استشكال أو استفهام أو اشتباه أو وسوسة، يتّهم جَهلَه ولا يتّهم ربه ودِينه، ثم يسأل أهل العلم ويثابر في البحث الجادّ حتى تطمئن نفسه لجواب
وقد يسأل سائل عن الفرق بين الوساوس والأسئلة الاستفهامية المشروعة عما لا نفهم في الدين، والجواب يجده من يُقبِل على تَعَلُّم الدين، فهو الذي يُبَيِّن حدود الاستفهام والجواب، ويفرّق بين الاستشكال المشروع مواجهته والوسواس المطلوب دحضه، من ذلك مثلًا، ما وَرَد في صحيح مسلم، في باب (بَيَانِ الْوَسْوَسَةِ فِي الإِيمَانِ): {يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتَّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ، فَلْيَسْتَعِذْ بِالله وَلْيَنْتَهِ}، فكان "الجواب" الذي ردّ به النبي - عليه السلام - على مثل تلك التساؤلات: الاستعاذة والانتهاء، أي التوقف فورًا وقطع الاسترسال في تلك الأسئلة والخواطر، لا الإمعان فيها ولا تشجعيها تحت أيّ مسمّى.
وخلاصة أدب السؤال: أن يشتغل كل مؤمن بتعلم العلم الذي يدفع الجهل حقًا، لا بظاهر العلم وزخرفه، وكلما عَرَض له عارض استشكال أو استفهام أو اشتباه أو وسوسة، يتّهم جَهلَه إن كان مُتّهمًا، ولا يتّهم أبدًا ربه ودِينه، ثم يسأل أهل العلم ويثابر في البحث الجادّ حتى تطمئن نفسه لجواب، وليذكُر أنه ليس كل سؤال صحيح مطلقًا، أو يُطالَب بإيجاد جواب له دائمًا، وإنما يُعطي كلّ نوع من الأسئلة حقها.