"إلى الجنرالات الذين رافقوني في الأسابيع الأخيرة، يبدو أننا سنفترق غدًا، لكنني أشكركم من أعماق قلبي على إنسانيتكم غير الطبيعية التي أظهرتموها تجاه ابنتي "إيمليا"، هي تعترف بالشعور بأنكم كلكم أصدقاؤها ولستم مجرد أصدقاء، وإنما أحباب حقيقيون جيدون، شكرًا، شكرًا.. شكرًا على الساعات الكثيرة التي كنتم فيها كالمربية، شكرا لكونكم صبورين تجاهها.
الأولاد لا يجب أن يكونوا في الأسر، لكن بفضلكم وبفضل أناس آخرين طيبين عرفناهم في الطريق، ابنتي اعتبرت نفسها ملكة في غزة، لم نقابل شخصًا في طريقنا الطويلة هذه من العناصر وحتى القيادات إلا وتصرف تجاهها برفق وحنان وحب.
أنا للأبد سأكون أسيرة شكر؛ لأنها لم تخرج من هنا بصدمة نفسية للأبد!
ليت لهذا العالم أن يقدّر لنا أن نكون أصدقاء طيبين حقًا، أتمنى لكم جميعًا الصحة والعافية، الصحة والحب لكم ولأبناء عائلاتكم.. شكرًا كثيرًا"
دانيال وإميليا
إن كل ما سبق عبارة عن مقتطقات من الرسالة التي تركتها الأسيرة "دانيال ألوني" (44 عامًا) وابنتها "إميليا" (6 سنوات) وذلك قبل خروجهما من غزة في صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الصهيوني، تعبّر الأم في رسالتها عن صادق امتنانها لكل أفراد المقاومة الذين رافقوها وابنتها في الأسر وعملوا على توفير كل سبل الدعم المادي والنفسي لها ولابنتها ولكل الأسرى.
العدو الصهيوني يُصوِّر لشعبه أن المجاهد الفلسطيني إنسان أشعث أغبر، رثّ الثياب ومبتذل الهيئة، دائم الصراخ والعويل، ضيق الأفق ومحدود الفهم، شديد البطش والتنكيل، شاهرًا سلاحه ولا يفهم إلا لغة العنف... وكل ذلك فنَّده رجال المقاومة من خلال تعاملهم مع أسرى الاحتلال!
أولًا/ شهادة لا بد منها وحقيقة لا بد من إقرارها
إن الإخلاص عندما يتمكن من قلب الإنسان تراه مُتجردًا لدينه، مُنضبط الانفعالات، ناكرًا للذات، ناسيًا كل ما أصابه من لأواء إذا كان تذكره سيجعله يحيف عن الجادة قيد أنملة، وهذا ما نلحظه من مجاهدي القسَّام في تصرفاتهم عامة، وهذا ما فعلوه في ملف الأسرى الصهاينة خاصة.
إن مجاهدي القسَّام قد أحسنوا وفادة الأسرى الصهاينة وقاموا على خدمة مرضاهم كأحسن ما تكون الخدمة، فلم نسمع أن واحدًا من الأسرى الصهاينة قد تعرض لتعذيب ولا لإهانة، ولم نسمع كذلك أن أحدهم قد أصيب بالصدمة النفسية جراء ما تعرَّض له، بل على العكس من كل ذلك وجدناهم يثنون على أفراد المقاومة وكيف أنهم كانوا يؤثرونهم على أنفسهم في الطعام والشراب والعلاج والراحة... إلخ، وظهر ذلك جليًا في المشاهد التي نُقِلَت إلى العالم كله ورأى العالم كيف أن الأسير الصهيوني يودِّع المجاهد القسَّامي وداعًا مليئًا بالمشاعر الصادقة التي لا تلون فيها ولا تَمَلُّق.
إن ما فعله مجاهدو القسَّام في ملف الأسرى تحديدًا أبهر العالم من عظمة الإسلام، وغيَّر الصورة الذهنية المشوشة والمشوهة لدى كثيرين عن مفهوم الجهاد والمجاهدين في الإسلام.
وما فعله مجاهدو القسَّام بيَّن للعالم أن رسالة الجهاد في الإسلام رسالة سامية، والهدف منها نبيل، وهذا ما ترجمته فصائل المقاومة أثناء تعاملها مع أسرى الاحتلال الصهيوني، على الرغم من صعوبة الظروف والتكلفة الباهظة التي تكبدتها فصائل المقاومة لضمان أمن وسلامة الأسرى.
وما فعله رجال المقاومة هو بمثابة اختراق نفسي يفنِّد الادعاءات الكاذبة التي غرسها العدو في أفراد شعبه وروَّج لها إعلاميًا منذ قيام دولته.
وما فعله مجاهدو القسَّام سيكلف العدو الصهيوني الكثير والكثير ليس أمام شعبه فقط بل أمام كل شرفاء العالم وأمام كل من غرر بهم في هذا الجانب تحديدًا، وسيفضح ممارسات العدو الصهيوني ضد الأسرى الفلسطينيين.
إن العدو الصهيوني يُصوِّر لشعبه أن المجاهد الفلسطيني إنسان أشعث أغبر، رثّ الثياب ومبتذل الهيئة، دائم الصراخ والعويل، ضيق الأفق ومحدود الفهم، شديد البطش والتنكيل، شاهرًا سلاحه ولا يفهم إلا لغة العنف... وكل ذلك فنَّده رجال المقاومة من خلال تعاملهم مع أسرى الاحتلال.
كل الأسرى الذين يخرجون من سجون الاحتلال يصبون عليهم اللعنات لما يلاقونه على أيديهم من تعذيب لا إنساني وتنكيل وحشي لا يُقره شرع ولا عرف ولا قانون، لذلك حري بهؤلاء البلهاء السذج أن يسمّوها "متلازمة غزة"!
ثانيًا/ نبذة عن حقوق الأسرى في الإسلام
لكي يخفف العدو الصهيوني من وطأة المهانة التي تعرَّض لها في ملف الأسرى فسَّر البعض منهم تصرفات أسراهم تجاه أفراد المقاومة إلى ما يُسمى "متلازمة استكهولم" التي تقول بأن الصدمة النفسية تجعل الضحية تتعاطف مع المجرم بل وتدافع عنه.
لقد نسي هؤلاء البُلهاء السذج أن كل الأسرى الذين يخرجون من سجون الاحتلال يصبون عليهم اللعنات لما يلاقونه على أيديهم من تعذيب لا إنساني وتنكيل وحشي لا يُقره شرع ولا عرف ولا قانون، لذلك حري بهؤلاء البلهاء السذج أن يسمّوها "متلازمة غزة"!
ولقد صدق في هؤلاء قول شاعر العصر الأيوبي "أبو الفوارس" الملقب بـ "الحيص بيص":
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً :: فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما :: غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا :: وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
ونسي هؤلاء أن آداب التعامل مع الأسرى موثقة في شريعتنا الغرَّاء منذ أكثر من 14 قرنًا من الزمان!
قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9]
إن الإسلام يعُدّ الأسرى من الضعفاء الذين يستحقون الإحسان، ويُوجب معاملتهم معاملة حسنة تحفظ كرامتهم، وترعى حقوقهم، وتصون إنسانيتهم، على عكس ما نراه في عصرنا ممن يعدون الأسير مسلوب الحقوق فيحرمونه من أبسط حقوقة الإنسانية، مُستباح الكرامة فيتطاولون عليه ويهينونه أيَّما إهانة مما يترتب على ذلك الكثير من الأمراض البدنية والنفسية التي تلازم الأسير طوال حياته.
عن أبي عزيز بن عمير - أخو مصعب بن عمير - قال: كنت في الأسارى يوم بدر فقال رسول الله ﷺ: "استوصوا بالأسارى خيرًا" وكنت في نفر من الأنصار، وكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني الخبز بوصية رسول الله ﷺ إياهم" (المعجم الكبير للطبراني)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - في هدي النبي ﷺ في التعامل مع الأسرى: "... كان يَمُنّ على بعضهم (يُطلق سراحهم بلا فداء)، ويقتل بعضهم، ويُفادي بعضهم بالمال، وبعضهم بأسارى المسلمين، فعل ذلك كلّه بحسب المصلحة"
ويقول الشيخ القرضاوي رحمه الله: "ومن رأى مصلحة الإسلام ومصلحة أمته في غير هذا التوجه، وأصرَّ أن الإسلام يأبى إلا قتل الأسارى ومعاملتهم بقسوة وعنف فهو أعمى عن الحقيقة، وعن المصلحة، كما هو أعمى عن الإسلام وعن العصر"
إن هذا هو المنهج الذي جعل الإسلام يدخل في قلوب أعدائه حتى اعتنقوه ورضوه لأنفسهم دينًا، وممن أسلموا بعدما رأوا رحمة المسلمين وتسامحهم مع الأسرى أبو العاص بن الربيع، وأبو عزيز بن عمير، والسائب بن عبيد، والوليد بن الوليد بن المعيرة... وكثير غيرهم.
إدارة ملف الأسرى من جانب المقاومة الفلسطينية أبهرت العالم كله لما ورد فيها من رسائل لم يتعودها العالم
ثالثًا/ قراءة في إدارة المقاومة الفلسطينية لملف أسرى العدو الصهيوني
إن إدارة ملف الأسرى من جانب المقاومة الفلسطينية أبهرت العالم كله لما ورد فيها من رسائل لم يتعودها العالم، هذه الرسائل تتلخص في:
• تصوير الأسرى وهم في أماكن تحفظ لهم كرامتهم وإنسانيتهم.
• التركيز على أن الأسرى يجدون كل احتياجاتهم من غذاء ودواء، وأن هناك من هم مكلفون بتلبية كل ذلك لهم.
• السماح للأسرى بتوجيه رسالة إلى أهليهم وذويهم وإلى قادة وزعماء الاحتلال الصهيوني.
• إرسال قادة المقاومة رسائلَ موجهةً إلى عموم الشعب الإسرائيلي بأن حكومتهم تغامر بأرواح أبنائها كسبًا للوقت، وأن كل دقيقة تمضي هي خطر على حياة الأسرى "الصهاينة" لدى "المقاومة" مما يضع حكومة الاحتلال في مأزق، ورأى العالم المظاهرات التي نظمها أهالي الرهائن أمام بيت نتنياهو.
• الإفراج عن الحالات الإنسانية الحرجة؛ لبيان أن الأسر ليس غاية لدى المقاومة ولكنه وسيلة لغاية وهي تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال.
• الحفاظ على أمن وسلامة الأسرى بالرغم من الدمار الذي شمل معظم قطاع غزة للحد الذي رأينا فيه أن فتاة من بين الأسرى قد احتفظت بـ (كلبها الصغير) طوال فترة الأسر وخرجت به لتثبت للعالم كله أن "قادة حماس" هم القوم الذين لا يشقى بينهم (أسيرهم) ولا (كلب أسيرهم)
• حسن اختيار أماكن تسليم الأسرى لتوجيه رسالة للعدو الصهيوني ومن يدعمونه بأن العدو كاذب في تصريحاته، وأن المقاومة بخير على عكس ادعاءات العدو، وأن المقاومة تملك بزمام الأمور، وأن خيوط المواجهة ما تزال تحت سيطرتها، وأنهم يملكون من أوراق الضغط ما يُجبرون بها العدو الصهيوني على أن يرضخ لشروطهم.
• شهادة الأسرى بأن خوفهم من الموت لم يكن من قبل حماس وإنما من عمليات القصف العشوائي الذي ينفذه جيشهم في غزة.
• زيارة القائد القسامي "يحيى السنوار" لأسرى الاحتلال والحديث إليهم باللغة العبرية من أجل طمأنتهم ومن أجل توصيل رسالة مفادها أن قادة المقاومة ليسوا بمعزل عما يدور من أحداث وأن القادة والجنود في خندق واحد ومصير واحد.
• بيان أن المقاومة ماضية بجد نحو الهدف المُعلن الذي قطعته على نفسها وهو تصفير/ تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين وشعارهم في ذلك "الجميع مقابل الجميع"
• بيان أن قوات الاحتلال هي التي كانت تقتل من تصل إليه من الأسرى مثلما فعلت مع الأسير "روني كريبوي" الذي نجح في الهرب لمدة أربعة أيام إلا أن سلاح الجو الإسرائيلي قصف المبنى الذي كان يقيم فيه، واستطاعت المقاومة الإمساك به من جديد، ثم تسليمه ضمن صفقة تبادل الأسرى لكونه مزدوج الجنسية.
أسست "حركة حماس" منهجًا فى توصيل رسالة الإسلام الحقيقية وهي أن المسلم الذى يحمل بين يديه بندقية هو نفسه المسلم الذى يحمل بين أضلعه قلبًا نقيًا رقيقًا ليِّنًا، والمسلم الذي تفيض عيناه دمعًا شفقة على بكاء طفل هو نفس المسلم الذي يُبدي من التضحية ما تجعله يضحي بأبنائه من أجل دينه
• تخصيص نساء فلسطينيات من "وحدة الظل" المُوكل إليها تأمين الأسرى ورعاية شؤونهم لمرافقة النّساء الأسيرات الصهيونيات، وهذا ما شهدت به الأسيرات المفرج عنهن وما أظهرته بعض لقطات تسليم الأسرى للصليب الأحمر.
• تمسُّك المقاومة برأيها في تحديد مواصفات الأسرى الفلسطينيين المراد إطلاق سراحهم.
• تخطيط المقاومة لتسليم الدفعة الثالثة من الأسرى الصهاينة في شوارع شمال غزة، ووسط حشد جماهيري لإرسال رسالة مفادها أن المقاومة بخير وأن الشعب يلتف حولها، ولرفع الروح المعنوية لعموم الشعب في غزة.
كيفية تعامل المقاومة مع ملف أسرى الاحتلال لم يكن وليد الموقف بل جاء بعد سنوات من الإعداد والتدريب لأفراد "وحدة الظل" لتأمين أسرى الاحتلال والحفاظ عليهم في "دائرة المجهول" لضمان عمليات تبادل أسرى ناجحة مع الاحتلال الصهيوني
لقد أسست "حركة حماس" منهجًا فى توصيل رسالة الإسلام الحقيقية وهي أن المسلم الذى يحمل بين يديه بندقية هو نفسه المسلم الذى يحمل بين أضلعه قلبًا نقيًا رقيقًا ليِّنًا، والمسلم الذي تفيض عيناه دمعًا شفقة على بكاء طفل هو نفس المسلم الذي يُبدي من التضحية ما تجعله يضحي بأبنائه من أجل دينه.
أخيرًا أقول..
إن كل ما أبهر العالم من كيفية تعامل المقاومة مع ملف أسرى الاحتلال لم يكن مصادفة ولا وليد الموقف بل جاء بعد سنوات من الإعداد والتدريب لأفراد "وحدة الظل" التي أسستها كتائب القسام عام 2006م إبان أسر الجندي الصهيوني "جلعاد شاليط"، وتحيط كتائب القسام هذه الوحدة بمزيد من التكتم والسِّرية؛ لحساسية المهمة المنوطة بها وهي تأمين أسرى الاحتلال والحفاظ عليهم في "دائرة المجهول" لضمان عمليات تبادل أسرى ناجحة مع الاحتلال الصهيوني.