حقيقة النصر بين المفهوم الرباني والمفهوم الإنساني (سورة البروج نموذجًا)

الرئيسية » بصائر الفكر » حقيقة النصر بين المفهوم الرباني والمفهوم الإنساني (سورة البروج نموذجًا)
حقيقة النصر بين المفهوم الرباني والمفهوم الإنساني سورة البرومج نموذجا - سيرين الصعيدي

يقف الإنسان اليوم بكل ما أوتي من قوة الحضارة المادية والرفاهية الاقتصادية وما أتيح له من كل الإمكانيات التي جعلت العالم بأسره يتنقل بين قاراته ومجرياته بضغطة زر وهو على أريكته بل وعلى سرير نومه، يقف أسيرًا للمعطيات المادية فيحتكم إليها بل وليكوّن تصورًا عن مجريات الكون وأحداثه حسب ما تقدمه الحضارة المادية له من أسباب فيعيش في إطار ضيق من هذه التصورات التي ستظل قاصرة بقصور الإنسان الذي مهما أوتي من قوة إلا أنه يظل بقوته محدودًا تفجأه مفاجآت آتية من عالم الغيب الذي طالما أشاح وجهه عنه بدل من محاولة التكيف والتعايش والتآلف معه.

هذا إنسان العصر المتنبه اليقظ للأسباب والغافل كل الغفلة عن مسبب الأسباب في عالم الغيب الذي شغلنا عنه عالم الشهادة الذي نتشبث به فلا نكاد نصغي لشيء لا تراه أعيننا ولا تسمع به آذاننا.

استوقفتني سورة البروج التي أوحى الله بها لنبيه الكريم والذي هو من عالم الغيب لم تبصره أعيننا ولم تسمعه آذاننا، وبرغم ذلك آمنّا به إيمانًا وتسليمًا إلا أننا ما زلنا نعاني من قصور في كيفية تعاملنا مع معجزته الخالدة (القرآن الكريم) الذي أُنزل إلينا ليكون منهج حياتنا منه نستقي تصورنا ونستمد عزتنا ونرسم مستقبلنا ومعالجة واقعنا إذا خرجنا عن المألوف الذي اعتدنا فيه على التعامل مع ما أوتيه النبي الأكرم من وحي (القرآن الكريم والسنة النبوية)

كأنّ سورة البروج أُنزلت اليوم لتعيد الوعي لمن ألقى السمع وتصحح المعايير التي اختلت في أفهامنا بسبب فرط انشغالنا بالأسباب المادية التي فرضتها الحضارة المادية علينا، فكان من إفرازاتها الإنسان المادي بعقله وفكره وشعوره وقلبه

نعم، استوقفتني سورة البروج بالتزامن مع ما يحدث في العالم اليوم وخاصة في أرض الرباط والبقعة المقدسة فلسطين قضية المسلمين الأولى والجزء الذي لا يتجزأ من عقيدتهم قبلة المسلمين الأولى وبؤرة الصراع على ثالث الحرمين المسجد الأقصى.

استوقفتني السورة الكريمة عندما بدأت بوادر اليأس وملامح الملل والعجز والفشل تتسرب رويدا رويدا لقلوب بعض المتابعين لما يدور على أرض غزة والضفة على حد سواء، شلال دماء وأشلاء الجثث وإهانة الناس وذلهم تحت سياط الاعتقال والاحتلال وكل صور الدمار التي نصحو ونغفو بل ونقتات عليها، وكأنّ سورة البروج أُنزلت اليوم لتعيد الوعي لمن ألقى السمع وتصحح المعايير التي اختلت في أفهامنا بسبب فرط انشغالنا بالأسباب المادية التي فرضتها الحضارة المادية علينا، فكان من إفرازاتها الإنسان المادي بعقله وفكره وشعوره وقلبه.

سورة البروج التي نزلت في الفترة المكية حين كان المسلمون الأوائل في طور ميلادهم الجديد وانسلاخهم وتبرؤهم من عقائد ورثوها عن الآباء والأجداد، نزلت في الفترة المكية وهم يستقبلون عقيدة جديدة بتصورها لعالم الغيب والشهادة على حد سواء، تحمل في ثناياها معالم الإنسان الجديد تحمل في تعاليمها معاني وحقائق كما الشمس التي تشرق فينزاح الظلام وينقشع تحت سطوع أشعتها لتفتح في تصورنا وأفهامنا منافذ نرى بها الحقائق في أوضح ما يكون.

نزلت سورة البروج في الفترة المكية من الدعوة الإسلامية وقصة أصحاب الأخدود محورها وموضوعها الأساسي، بدون أن تذكر أسماء وتفاصيل أبطالها أو مكانها وزمانها، وكعادة القرآن الكريم يتجاوز التفاصيل ويركز على الجوهر؛ فالإنسان في زمانه ومكانه إنما هو جزء من رسالته ينصهر فيها ويذوب فلا أهمية لاسمه وجنسه ولونه فخلوده وانتصاره وفلاحه بقدر استمرار وانتصار رسالته التي هي عقيدته، هكذا المسلم ينبغي أن يكون ويربي نفسه على الاعتزاز بعقيدته والانتصار لها وإن كتب عليه أن يظل مجهول الهوية والجنس واللون، فحسبه من الشرف أن يكون صاحب رسالة وجندي يذود عن هذه العقيدة الغراء.

أوَ ليس ما يحدث على أرض فلسطين على مرأى ومسمع من العالم دعيّ الإنسانية وحقوق الإنسان صورة طبق الأصل عن أصحاب الأخدود، أليس ما يحدث في فلسطين انعكاس لسورة البروج في زمانها وأشخاصها ومكانها؟!

تبين لنا سورة البروج حقيقة الصراع بين أهل التوحيد وأهل الباطل، وطبيعة وسبب النقمة التي تنقم بها ملة الكفر على ملة التوحيد، لقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، بل وتنتكس بهم الفطرة لدرجة أن يجلسوا ويتمتعوا بل ويتفننوا بعذاب الفئة التي آمنت، ليرووا حقدهم وغلهم بشلال الدماء الزكية والأشلاء الطاهرة وقد تجردوا من كل معاني الإنسانية التي من شأنها أن ترق لحال من يشاركها أخوّة الإنسانية، لكن أي معنى يبقى للإنسانية في النفوس التي تمور غيظًا وانتقامًا.

أوَ ليس ما يحدث على أرض فلسطين على مرأى ومسمع من العالم دعيّ الإنسانية وحقوق الإنسان صورة طبق الأصل عن أصحاب الأخدود، أليس ما يحدث في فلسطين انعكاس لسورة البروج في زمانها وأشخاصها ومكانها؟!

أليس نزولها في الفترة المكية هي تهيئة لنفوس المسلمين لما قد يصيبهم من أذى بل ومن فناء في سبيل عقيدتهم التي نفضت عن قلوبهم وأرواحهم وبصائرهم غشاوة الجاهلية والوثنية والعبودية لغير الله؟!

بل إنّ هناك حقيقة عرضتها سورة البروج وعلى كل مسلم أن يتأملها ويتدبرها، ألا وهي نتيجة الصراع ونهايته التي لا يستلزم منها أن تكون نصرًا في كل جولة من جولات الصراع والمعارك بين الباطل والحق، وأنّ مسرح أحداث هذا الصراع والفصل في نهايته ليس بالضرورة أن يكون على هذه الأرض وفي أحداث هذه الحياة؛ لأنّ هذه الحياة ما هي إلا مرحلة مؤقتة وفترة عابرة وثمة حياة أخرى يكون الفصل النهائي فيها بين كل الصراعات والمتخاصمين.

حياة المرء بدون عقيدة ورسالة يموت في سبيل نصرتها لهي هزيمة محققة وحياة خاوية من أية قيمة ومعنى، والموت مقابل انتصار العقيدة فوز وفلاح مؤكد

نعم، جاءت سورة البروج لتصحح مفهوم المؤمن حول طبيعة الصراع ومنهجه ونهايته جاءت لتصحح معاييره في زنة الأمور وقياسها، وأنّ حياة المرء بدون عقيدة ورسالة يموت في سبيل نصرتها لهي هزيمة محققة وحياة خاوية من أية قيمة ومعنى، وأنّ الموت مقابل انتصار العقيدة لهو فوز وفلاح مؤكد.

فمن يقرأ سورة البروج وينظر لأحداثها بنظرة البشر المحدودة ومعاييرهم القاصرة، يرى في موازين أهل الأرض أن الهزيمة حاقت بمن آمن وركب مركب التوحيد؛ لأنّ نهايته كانت من بداية إيمانه فلم يعمر في الأرض ولم يتلذذ بانتصاره؛ فقد مات منذ ولادة التوحيد فيه، وهذا في مفهوم السماء قصور في البصر والبصيرة، فمعايير السماء ورب البشر تختلف اختلافًا جذريًا عن معايير البشر الذين انحصر تفكيرهم في حدود الطين الذي خلقوا منه.

فمنذ لحظة ولادة التوحيد في نفوس الذين آمنوا زجوا في أخدود من النيران التي لا تبقي ولا تذر، وقد وردت القصة في تفاصيلها في صحيح مسلم، وتأمل نهاية الحديث: "فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وقال من لم يَرْجِعْ عن دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فيها أو قِيلَ له اقْتَحِمْ فَفَعَلُوا حتى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لها فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فيها فقال لها الْغُلَامُ يا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ على الْحَقِّ" (صحيح مسلم)

وهذه القصة التي عرضها القرآن الكريم في الفترة المكية لتقر حقيقة للناس أنّ مفهوم وحقيقة النصر يختلف اختلافًا كليًا عن تصور البشر ومعايير أهل الأرض، ولو تأملت في معرض الدعوة الإسلامية واستشهاد الصحابة مثل سمية وياسر والدا الصحابي عمار رضي الله عنهم جميعًا، وكذلك الذين استشهدوا في معركة الفرقان (بدر) أول معركة بين الحق والباطل لم يشهدوا لحظة الانتصار ومع ذلك في معايير الله هم المنصورون على الحقيقة.

ما قيمة الحياة وأنت تعيشها مسلوب الحرية والإرادة بلا مبدأ ولا عقيدة تمارسها بحرية ومقدساتك تحت همجية عدو لم ينتقم منا إلا أننا آمنّا بالله

واليوم ما يجري في فلسطين يقف الكثير ويتساءل عن الفائدة وعن معنى الانتصار الذي ممكن أن نحققه أمام تكالب الأمم علينا وبحر الدماء والأشلاء التي ضجت بها الأرض، فأي انتصار يمكن أن يحدث وشعب يباد فلم يسلم الحجر ولا الشجر من هذه الحرب الهوجاء؟! وماذا يمكننا أن نفعل بانتصار مقابل هذا الكم الهائل من التضحيات؟! فلا بيوت تؤوي ولا مقومات للحياة، بل عائلات كثيرة أزيل اسمها من السجل المدني والإعاقات واليتم والفقر والجوع وانتشار الأمراض وهدم المستشفيات والمدارس بل جلّ المرافق العامة.

وهنا يأتي القرآن ليبين للناس حقيقة طالما شُغلنا عنها أنّ الحياة ليست هي القيمة الكبرى في حياة المسلم وليست هي السلعة التي تستحق منا البذل والتضحية في مبدئنا وعقيدتنا ورسالتنا، وليست الحياة هدفًا بذاته ليقرر النصر والهزيمة في موازيين الله، إنّ القيمة الكبرى هي انتصار عقيدتك ولو تفتت جسدك أشلاءً؛ إذ ما قيمة الحياة وأنت تعيشها مسلوب الحرية والإرادة بلا مبدأ ولا عقيدة تمارسها بحرية ومقدساتك تحت همجية عدو لم ينتقم منا إلا أننا آمنّا بالله العزيز الحميد؟!وهل من الطبيعي أن نحرص على حياة مجرد حياة كما فعل بنو إسرائيل في سابق عهدهم وقد سلبنا كل مقومات الحياة العزيزة الكريمة بحرية الفكر والاعتقاد، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى جعل هذه الحياة دار ابتلاء، فقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "عن خَبَّابِ بن الْأَرَتِّ قال شَكَوْنَا إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا له ألا تَسْتَنْصِرُ لنا ألا تَدْعُو اللَّهَ لنا قال كان الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرض فَيُجْعَلُ فيه فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ على رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ من عَظْمٍ أو عَصَبٍ وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينِهِ والله لَيُتِمَّنَّ هذا الْأَمْرَ حتى يَسِيرَ الرَّاكِبُ من صَنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إلا اللَّهَ أو الذِّئْبَ على غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" [صحيح البخاري]

المعركة النهائية لم ولن تحسم هنا، بل ثمة دار آخرة تُنصب بها محكمة العدل الإلهية وهناك تكون النتيجة الحاسمة والنصر الأكيد فما قيمة نصر تنتصره بهذه الحياة وتبوء بهزيمة أبدية في تلك الدار الخالدة

إذن المعركة النهائية لم ولن تحسم هنا، بل ثمة دار آخرة تُنصب بها محكمة العدل الإلهية وهناك تكون النتيجة الحاسمة والنصر الأكيد فما قيمة نصر تنتصره بهذه الحياة وتبوء بهزيمة أبدية في تلك الدار الخالدة؟!

وهل يبقى مجال لأن تتذكر ذرة ألم انصهر تحتها جسدك في الدنيا في مقام انتصرت به لأبد الآبدين؟! إنّ هذه الحقيقة والمعاني لن يدرك قيمتها ويشعر بمعانيها إلا إنسان تخلل الإيمان لحمه ودمه وعظمه وأدرك حقيقة أنّ ما عند الله خير وأبقى وأن الحياة كل الحياة بكل لذائذها لا تساوي لحظة استعلاء وعزة تلفظ بها أنفاسك وتودع الحياة منتصرًا بعقيدتك مستعليًا بها على كل سفاسف الأرض، فتدبر!

ثم قف متدبرًا متأملًا سورة البروج وأنت تراقب الصراع اليوم والحرب الهوجاء على شعب أعزل، وانظر ببصيرتك وتبرأ من حولك وقوتك، وتجرد من أحكامك العقلية وحساباتك البشرية وانظر لسنن الله، وقتها تدرك أنك عزيز منتصر سواء بموتك أو بحياتك، وأنك مثلما أنت امتداد لغيرك فسيخلفك من يشاركك العقيدة والرسالة والمعنى فيكون امتدادا لك فتظل تنبض بالحياة حتى بعد موتك ما دامت رسالتك مستمرة مستعلية في هذه الحياة، وشتان بين نقمة البشر وانتقامهم وهم ينتقمون ويتفرجون على أشلاء المستضعفين المظلومين وبين انتقام رب البشر من الظالمين الناقمين!

كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …