حلل يا دويري

الرئيسية » بصائر من واقعنا » حلل يا دويري
حلل يا دويري

"والله لينصرن الله وليَّه ويُظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات"

سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه

إن الدور الذي يؤديه اللواء والخبير العسكري والاستراتيجي الأردني (فايز الدويري) طَوال حرب طوفان الأقصى لا يختلف فيه اثنان؛ فالرجل يحلل أحداث المواجهة وتفاصيلها تحليلًا مهنيًا واحترافيًا يجعل من يشاهدونه يشعرون وكأنهم في ميدان المعركة.

ولا أكون مبالغًا إذا قلت إن دور اللواء (فايز الدويري) لا يقل أهمية عن دور قادة المقاومة في حجرة العمليات الرئيسة للمعركة؛ فـ (الدويري) يواجه آلة إعلامية صهيونية عالمية تمرست على بث الأكاذيب وطمس الحقائق وتزوير الأحداث، والرجل يفند كل ذلك تفنيدًا يصيب العدو الصهيوني في مقتل.

إن كل ما سبق جعل أحد أبطال المقاومة الفلسطينية في الميدان يصيح بأعلى صوته قائلًا: "حلل يا دويري"، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن رجال المقاومة يتابعون تحليل اللواء الدويري للأحداث، فيشد من أزرهم ويرفع معنوياتهم وهم راضون عما يفعله تمام الرضى.

حلل يا دويري مهند رزق جبريل
اللواء فايز الدويري

إن مشهد (حلل يا دويري) التي جاء بعد استهداف أحد رجال المقاومة لآلية للاحتلال الصهيوني متحصنة خلف مبنى في منطقة (جحر الديك) وسط قطاع غزة لم يدرسه في "أكاديمية ساندهيرست الملكية البريطانية"، ولا في "الأكاديمية العسكرية الملكية في كندا"، ولكن أبطال غزة نفذوه وقدموه درسًا يستعصي على النسيان، بل وأجبروا القادة العسكريين حول العالم على تدريسه في أكبر الأكاديميات العسكرية.

وبهذا تكون صيحة (حلل يا دويري) التي سمعها العالم بأسره أفضل تكريم وأعلى وسام للرجل، لم يحصل عليه غيره طَوال عقود المواجهة مع العدو الصهيوني، وهذا فضل الله يوتيه من يشاء.

ستظل مقولة "حلل يا دويري" هي المقولة الأكثر عمقًا في القلوب وتأثيرًا في الأذهان؛ لأن قائلها هو أحد أبطال الميدان الذين يقاتلون العدو من المسافة صفر

أولًا/ عبارات تستعصي على النسيان

لقد رأينا وسمعنا كلمات وعبارات من أبطال غزة في ملحمة "طوفان الأقصى" ستظل عالقة في ذاكرة الأمة بل وسيخلدها التاريخ لتكون زادًا للأجيال القادمة، من هذه الأقوال على سبيل المثال لا الحصر: (لا نريد منكم تحريك الجيوش... لا سمح الله، حلل يا دويري، روح الروح، بينتقموا منا في الأولاد "معلش"، بدي أوديها على التلاجة، هي أمي بعرفها من شعرها، الولاد ماتوا بدون ما ياكلوا، بدي شعرة منه، يا حبيبي يا جعفر، يوسف حلو أبيض وشعره كيرلي، بدي يوسف يا بابا، ما تعيطش يا زلمة، مات الطبيب والمُسعف والجريح، حطي قلبك على قلبي يمّة...) إلى غير ذلك من الكلمات والعبارات التي أدمت قلوب الشرفاء حول العالم!

من بين كل هذه الكلمات والعبارات ستظل مقولة "حلل يا دويري" هي المقولة الأكثر عمقًا في القلوب وتأثيرًا في الأذهان؛ لأن قائلها هو أحد أبطال الميدان الذين يقاتلون العدو من المسافة صفر.

يقينًا أقول: "إننا لو دققنا في تفاصيل معركة "طوفان الأقصى" وطلبنا من "الدويري" أن يحللها لاحتاج فوق عمره أعمارًا.

معركة طوفان الأقصى اشتملت على كل محاسن الغزوات والمعارك التي خاضها المسلمون من قبل

ثانيًا/ حلل يا دويري

عندما سمعت صيحة (حلل يا دويري) لأول مرة جال في خاطري الكثير والكثير من المواقف التي حدثت في غزوات المسلمين ومعاركهم، وكل موقف يستحق أن يُطلق بعده عبارة (حلل يا دويري)، وكأن معركة طوفان الأقصى - وبدون مبالغة - قد اشتملت على كل محاسن الغزوات والمعارك التي خاضها المسلمون من قبل.

لقد راجعت نفسي كثيرًا قبل أن أذكر أن معركة طوفان الأقصى اشتملت على كل محاسن الغزوات والمعارك التي خاضها المسلمون من قبل ولكن ورد إلى ذهني حديث النبي ﷺ الذي قال فيه: "إنَّ مِنْ ورائِكُمْ أيامَ الصبرِ، الصبرُ فيهِنَّ كَقَبْضٍ علَى الجمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، أجْرُ خمسينَ منهم أَوْ خمسينَ مِنَّا؟ قال خمسينَ مِنْكُمْ" (مجمع الزوائد)، وفي رواية: أن الصحابة - رضوان الله عليهم - سألوا الرسول ﷺ كيف ذلك؟ قال: "لأنكم تجدون على الحق أنصارًا ولا يجدون على الحق أنصارًا"، وجميعنا يعلم أن فصائل المقاومة الفلسطينية عَزَّ نصيرهم، وجميعنا يعلم أن الأجر على قدر المشقة.

إن هذا ليس إطراءً ولا تزكية، ولا مقارنة ولا مفاضلة، ولكن تشبيهًا يشد من أزرنا؛ فإن التشبه بالكرام فلاح، أنَّى لجيل أن يبلغ جيل الصحابة ولا نصيفه! ولولا ما بذله جيل الصحابة من جهد ما وصل الإسلام إلينا!

غزوات ومعارك المسلمين الأوائل بها من المواقف التي تشبه المعجزات، بل هي بميزان العقل معجزات، ولكن قوة الإيمان لا تضارعها ولا تدانيها قوة

ثالثًا/ مواقف من غزوات ومعارك المسلمين الأوائل

إن غزوات ومعارك المسلمين الأوائل بها من المواقف التي تشبه المعجزات، بل هي بميزان العقل معجزات، ولكن قوة الإيمان لا تضارعها ولا تدانيها قوة، وسوف نذكر بعض هذه المواقف مع يقيننا أن كل موقف مما سنذكر يحتاج إلى كتب ومجلدات لتحليله.

1. أم هو الرأي والحرب والمكيدة.. "حلل يا دويري"

مقولة قالها الصحابي الجليل الحبَّابُ بن المنذر - رضي الله عنه - في "غزوة بدر" عندما أشار على النبي ﷺ بأنسب مكان للمعركة فنزل النبي ﷺ على رأي الحبَّاب، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الجندي رأيه مسموع لدى القيادة، وأن القائد لا يجد غضاضة في أن ينزل على رأي الجندي طالما أن الرأي له وجاهته.

2. إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم.. "حلل يا دويري"

هذه المقولة قالها النبي ﷺ للرماة في (غزوة أحد) وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أهمية الدور المنوط بالرماة، ويدل على الحسم في اتخاذ القرارات وإصدار التوجيهات وحسن التخطيط.

القائد لا بد أن يُقدِّم القدوة من نفسه، ويعيش معاناة من معه من جنود، حينها ترتفع المعنويات وتنهض الهمم وتخف الآلام وتتحقق الآمال

3. التراب يعلو شعر صدر النبي ﷺ في حفر الخندق... "حلل يا دويري"

عندما أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي – رضي الله عنه - على النبي ﷺ بحفر الخندق قائلًا: "إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا" فأمر النبي ﷺ بحفر الخندق حول المدينة وكان هو ﷺ في مقدمة من يحفرون حتى أن شعر صدر النبي ﷺ قد غطاه التراب.

عن البراء بن عازب – رضي الله عنه - قال: "رأيتُ النبيَّ ﷺ يوم الخندق وهو ينقل التراب حتى وارى التراب شعر صدره" (رواه البخاري)

وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حسن استماع القيادة للجنود والاستفادة بما لديهم من خبرات، ويكفي الجندي أن يقول رأيه بكل دقة ووضوح ثم يترك الأمر للقيادة تتخذ ما يصلح من قرارات، والقائد لا بد أن يُقدِّم القدوة من نفسه، ويعيش معاناة من معه من جنود، حينها ترتفع المعنويات وتنهض الهمم وتخف الآلام وتتحقق الآمال.

4. تهريب أسرى المسلمين من مكة.. "حلل يا دويري"

كان الصحابي الجليل (مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه) يؤدي مهمة عظيمة ألا وهي تهريب أسرى المسلمين من مكة إلى المدينة، وكان "مرثد بن أبي مرثد" في بعض الأحيان يحمل الرجل مُكبلًا في قيوده إلى أن ينتهي به إلى خارج حدود مكة ثم يفك قيده ويصل به إلى المدينة.

إن المَهمَّة التي كان ينفذها "مرثد" كانت من الصعوبة والخطورة بمكان؛ فقد كان المشركون يطاردونه، وحدث ذات مره أن طارده ثمانية من المشركين فاختبأ عن أبصارهم في مغارة وعندما وصلوا إلى المغارة تبول أحدهم على رأسه و"مرثد" – رضي الله عنه - لا يتحرك كي لا ينكشف أمره!

إن ماكان يفعله "مرثد بن أبي مرثد" – رضي الله عنه - هو ما نسميه اليوم (عملية فدائية) وإن شئت فقل (عملية من المسافة صفر)

لو لم يفعل رجال المقاومة سوى تنفيذهم لعمليات الإنزال خلف صفوف العدو الصهيوني في اليوم الأول من "طوفان الأقصى" وسَوْقِ الأسرى كما تساق النعاج لاستحقوا أن يُقال عنهم (صحابة العصر)

5. ابن أم مكتوم يحمل الراية.. "حلل يا دويري"

كان من عادة النبي ﷺ أنه إذا خرج لغزوة استخلف (عبد الله ابن أم مكتوم) على المدينة وتكرر ذلك 13 مرة، وعندما دارت (معركة القادسية) أراد "عبد الله ابن أم مكتوم" أن يشهد المعركة وهي كبرى المعارك الإسلامية في بلاد الفرس فخرج وحمل راية المعركة حتى لقي ربه شهيدًا.

قال "ابن عبد البَرّ" في "الاستيعاب": "استخلفه رسول الله ﷺ - أي عبد الله ابن أم مكتوم - على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته"، وأخرج "ابن سعد" أن عبد الله ابن أم مكتوم قد قال يوم القادسية: "ادفعوا لي اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر وأقيموني بين الصفين"

إن النفس التواقة تأبى إلا أن تشارك في معالي الأمور ولا ترضى عن الفردوس بديلًا، ولا يثنيها عن ذلك عُذر حتى لو كان هذا العذر هو العمى!

إن ما ذكرناه من مواقف قد فعل رجال المقاومة الفلسطينية مثلها، ولو لم يفعل رجال المقاومة سوى تنفيذهم لعمليات الإنزال خلف صفوف العدو الصهيوني في اليوم الأول من "طوفان الأقصى" وسَوْقِ الأسرى كما تساق النعاج لاستحقوا أن يُقال عنهم (صحابة العصر)

والأمثلة في هذا الجانب أكثر من أن تحصى:
• إن شئت حدثتك عما فعله (حذيفة بن اليمان رضي الله عنه) في (غزوة الخندق) حين قال النبي ﷺ "من يأتيني بخبر القوم ولا يفزعهم علينا" ثم قال "قم يا حذيفة"!

• وعن بطل (يوم اليمامة) الذي أمر المسلمين الذي أن يلقوا به داخل الحديقة التي يتحصن بها المشركون لكي يقاتلهم وحده ويفتح باب الحديقة، وهذا ما حصل بالفعل!

• وعن (صاحب النقب) الذي لا يعرف أحد اسمه إلى يومنا هذا.

• وعن جند المسلمين حين عبروا (نهر الفرات) على ظهر الأحصنة في (معركة القادسية)

• وعن (محمد الفاتح) الذي سيَّر السفن على قمم الجبال لينفذ عملية إنزال خلف تحصينات العدو في (مَضِيق الدَّرْدَنيل) ويفتح الله به "القسطنطينية"

مقولة "حلل يا دويري" ستبقى في الذاكرة لتمثل معنى البطولة والشجاعة، ولتكون شاهدة على ما وصل إليه أحفاد القردة والخنازير من إذلال لكبريائهم، وامتهان لكرامتهم

• وعن الفارس المسلم الذي وجد أن الأحصنة تخشى (الفيلة) التي يستخدمها (الفرس) في حروبهم فصنع فيلًا من الطين وربط فرسه بجواره ليألفه الفُرس، حتى إذا جاءت ساعة الصفر ركب هذا الفارس فرسه وهجم على الفيل الذي في مقدمة جيش الفرس وفقأ عينيه مما أحدث هلعًا وارتباكًا في صفوف العدو، وكانت فعلته سببًا في انتصار المسلمين.

• وعن ما فعله صلاح الدين مع أسرى الصليبيين حين وفر الأطباء والعلاج لجرحاهم ووفر لهم أطيب الطعام والثمار.

• وعن رسائل العزة والكرامة التي أرسلها قادة وأمراء المسلمين لأعدائهم فانخلعت قلوب العدو من أماكنها رعبًا.

أخيرًا أقول:

إن مقولة "حلل يا دويري" وجدت صداها في كل الميادين وعلى كل الأصعدة والمستويات؛ فقد اخترقت جدران الفساد التي دشنها أعداء الله لإفساد شباب الأمة وتغييب وعيهم فرأينا الشباب يتغنى بمقولة "حلل يا دويري" مفتخرًا بها، بل رأينا الأعاجم في بلاد الغرب يتغنون بها.

ومقولة "حلل يا دويري" فيها دلالة على أهمية الإعلام في نصرة المجاهدين.

ومقولة "حلل يا دويري" ستبقى في الذاكرة لتمثل معنى البطولة والشجاعة، ولتكون شاهدة على ما وصل إليه أحفاد القردة والخنازير من إذلال لكبريائهم، وامتهان لكرامتهم.

خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

الزواج وقت الحروب وفي مخيمات اللاجئين

يا عباد الله جئناكم نُهَنِي فاسمعوا إن شرع الله في الأفراح أن تتمتعوا لا بفحش …