في عالمنا الحديث، أكاذيب وخدع كثيرة، ومن أكثر هذه الأكاذيب والخدع، جائزة نوبل للسلام، وجائزة نوبل للسلام، التي مُنحت لأول مرة في العام 2001م، من المفروض أن تكون جائزة عالمية نزيهة، تُعطى لمن ينشرون السلام في الأرض، ويعملون من أجل ترسيخه، سواء كانوا قادة سياسيين، أو مفكرين وعلماء، أو إعلاميين وأدباء، المهم أن يكون لمن يحصل عليها باع في ترسيخ السلام العالمي، ونشره في ربوع الأرض.
لكن هذه الجائزة منذ أن أعطيت لأول مرة وهي تؤكد في كل حين على أنها جائزة موجهة، تتلاعب بها الجهة المانحة لها، ويتلاعب بها العالم الغربي كله من ورائها، فيعطونها لمن لا يستحقونها في أحيان كثيرة، ويحجبونها عن أحق الناس بها، وكل ذلك من أجل أغراض دينية أو سياسية أو ثقافية أو حتى عسكرية واقتصادية.
في مقال مترجم إلى العربية من الإنجليزية بعنوان (مهزلة جائزة نوبل) يقول الكاتب ما مجمله ومعناه: "لقد رُشح الطاغية موسوليني لهذه الجائزة في عام 1935م، ورُشح هتلر في عام 1939م على سبيل المزاح كما زُعم، ورُشح الطاغية ستالين في عامي 1945م و1948م، ولم ينلها واحدٌ مثل المهاتما غاندي؛ ربما لتجنب استعداء البريطانيين"
ومن أكبر المهازل في تاريخ جائزة نوبل، أنها أعطيت لرئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحم بيجن عام 1978م، متجاهلة دوره الدموي في قيام دولة إسرائيل، ومذابحه التي ارتكبها في حقّ الفلسطينيين لتهجيرهم، بوساطة منظمته العسكرية الصهيونية (أرجون)، التي أرتكبت الكثير من المجازر، ومن أشهرها مجزرة دير ياسين عام 1948م، ثم دخل بعد حصوله على الجائزة بقواته بعد ذلك إلى بيروت عام 1982م، وارتكب فيها مجازر مروعة.
جائزة نوبل للسلام جائزة مُسَيَّسَة وموجهة، ولو أنصف مانحو هذه الجائزة يومًا، لأعطوها لمن يستحقها، من صانعي السلام الحقيقي في هذا العالم، والمدافعين عنه، أمام آلات الظلم والبطش والطغيان
ومن المهازل أيضًا في تاريخ تلك الجائزة الأكذوبة، أنها أعطيت كذلك في عام 1994م، لرئيس الوزارء الإسرائيلي حينها إسحاق رابين ووزير خارجيته شيمون بيريز، مع أنهما كانا مسؤولين في المنظمة الإرهابية (الهاجاناة)، التي ارتكبت المجازر في الفلسطينيين، قبل قيام دولة إسرائيل وأثناء قيامها، وكان لها دور كبير في عملية ترحيل الفسطينيين.
ومن مهازلها أيضًا: حصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما عليها في عام 2009م، وهو نفس العام الذي كان قد تولى فيه رئاسة الولايات المتحدة، ولم يكن قد قدم بعد أي شيء للسلام، بل ولم يقدم من بعدها، حتى رحيله عن الرئاسة في عام 2017م.
جائزة نوبل للسلام جائزة مُسَيَّسَة بالكامل، وموجهة من مانحيها، ومن العالم الغربي من ورائها، من أجل مصالحه، ودوام هيمنته السياسية والفكرية على العالم.
ولو أنصف مانحو هذه الجائزة يومًا، لأعطوها لمن يستحقها، من صانعي السلام الحقيقي في هذا العالم، والمدافعين عنه، أمام آلات الظلم والبطش والطغيان.
لو أنصف هؤلاء، لأعطوها لواحد مثل وائل الدحدودح (مراسل قناة الجزيرة في قطاع غزة)؛ لأنه أصبح مثالًا ورمزًا لأولئك الذين ينقلون الحقيقة في عالم الكذب والخداع، ويوصلون صرخة المظلوم في عالم الظلم والطغيان، ويدفعون في سبيل ذلك الضريبة الباهظة من دمائهم ومن دماء أهلهم وأحبائهم.
إن كان من المستحيل أن تُعطى جائزة نوبل للسلام لأحد المقاومين الفلسطينيين فليس أقل من أن تُعطى للإعلام الحر الصادق في رسم الصورة من غير تزييف وكذب والذي يقف على رأسه وائل الدحدوح
فإن كانت جائزة نوبل للسلام، تهتم بالسلام حقًّا وبنشره في العالم، فإن أول ما يجب عليها لذلك، أن تبرز أولئك الذين يناضلون ضد الظلم والاستبداد، وضد الاحتلال والاغتصاب، وضد المجازر في المدنيين والآمنين، وضد الكذب وتزييف الحقائق، وكل ذلك موجود في المشهد الفلسطيني، فإن كان من المستحيل أن تُعطى جائزة نوبل للسلام لواحد من المقاومين الفلسطينيين ضد الظلم والاحتلال والقتل الإسرائيلي، وهم الأحق بها، فليس أقل من أن تُعطى للإعلام الحر، الصادق في رسم الصورة كما هي، من غير تزييف وكذب، هذا الإعلام الحر الذي يقف على رأسه اليوم الإعلامي الرمز وائل الدحدوح.
لقد أصبح الدحدوح رمزًا للإعلام الحر، وللإعلام المقاوم، ورمزًا للتضحية في سبيل الحقيقة، وفي سبيل المظلومين والمقهورين، الذين يريد العالم الظالم كله التعمية عليهم، وعلى ما يحدث لهم من فجور وظلم، لا مثيل ولا شبيه له.
قصة الدحدوح تُرسم بشكل أسطوري: إعلامي مقاوم، يقف على رأس أكبر وسيلة إعلامية تحاول نقل الحقيقة في غزة، وإعلام العالم كله بحجم المجزرة التاريخية التي تحدث هناك، فيستهدفه المحتل الغاصب لذلك، وينجو من الموت بأعجوبة، ويموت رفيقه المصور فيها، ويستهدف المحتل الغاصب مع ذلك أسرته، فتموت زوجته مع ابنته وابنه وحفيده، فيبقى صامدًا مُصِرًّا على مواصلة عمله ورسالته، ويقول قولته الشهيرة: "بينتقموا منا في الأولاد... معلش"، لتدوي الأناشيد والأغاني المقاوِمَة بصورته وكلمته هذه، ثم ليمعن الاحتلال في استهدافه، ويقتل بعد ذلك ابنه البكر، ليصلي عليه الدحدوح كما صلى على سابقيه من أهله، ويدفنه بيديه كما دفنهم، ثم يعاود إصراره على المضي في رسالته، ويستمر بثه المباشر، ليصف ما يحدث، ويوثقه لكل العالم، ليعلم الجميع كم هو حجم المؤامرة والمجزرة، تلك التي تحدث في غزة، وليعلم الجميع كم هو بطل وأيقونة: وائل الدحدوح.
هل تفعلها المؤسسة القائمة على منح جائزة نوبل للسلام، ويعطوا الجائزة لمستحقيها المناضلين حقيقة من أجل السلام، كشفا للمعتدين الظالمين، ونصرة للمظلومين المقهورين، والمضحين في سبيل ذلك بأرواحهم وأرواح أهلهم وأبنائهم
الجميع - وأنا منهم - يطلبون من الدحدوح أن يغادر غزة، بمن بقي من أهله وأولاده؛ لأننا ما عدنا نتخيل أن نقدر على تحمل أن يصاب في نفسه أو في أحد من أهله مرة أخرى، ما عدنا نستطيع أن نتخيل أن نقدر على التحمل، ونحن مجرد مشاهدين ومتابعين، فكيف به هو، وكيف بقدرته على التحمل، إن هو - لا قدر الله - أصيب مرة أخرى في أهله.
لقد كفَّى الدحدوح ووفّى، وإنا لنكاد نقول فيه كما قال - صلى الله عليه وسلم - في طلحة بن عبيد الله يوم أحد لما أن بلغ الذروة في دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أوجب طلحة"، ومعنى أوجب طلحة: أي وجبت له الجنة.
وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قالها لطلحة يقينًا ووحيًا، فإنا نقولها للدحدوح ظنًّا ورجاءً، والله حسيبه، ولا نزكيه على الله.
إن أمثال الدحدوح في غزة كثيرون، بل وهناك من هو أشد منه في التضحية والثبات، فهناك من خسر أسرته كلها، وما يزال صابرًا محتسبًا، بل ومقاوِمًا ومرابِطًا.
في غزة، أساطير كثيرة، في الصبر والثبات والعزة، وهناك أساطير أكبر كثيرًا في الحقيقة من أسطورة الدحدوح، غير أن أسطورة الدحدوح قد أصبحت رمزًا، بظهورها للعالم كله، كأسطورة للتضحية والصبر والثبات من أجل نصرة المظلومين بإظهار حقيقة ما يحدث لهم وفيهم، أسطورة الدحدوح علِمها العالم كله، والأساطير الأخرى الكثيرة، إن كان لا أحد في الناس يعلمها، فالله يعلمها.
فهل تفعلها المؤسسة القائمة على منح جائزة نوبل للسلام، ويحافظ القائمون على بقية ما في وجوههم من دماء، ويعطوا الجائزة لمستحقيها - أمثال الدحدوح - المناضلين حقيقة من أجل السلام، كشفا للمعتدين الظالمين، ونصرة للمظلومين المقهورين، والمضحين في سبيل ذلك بأرواحهم وأرواح أهلهم وأبنائهم.