لا أتفق مع تعميم فائدة كل المناهج الدراسية لمجرد كونها منسوبة للعلم، فليس كل ما تعلمته نفعك ولا كل ما جَهِلتَه ضرَّك، وليس كل علم سُمّي علمًا صار نافعًا.
وإلا فقد استعاذ المصطفى - عليه الصلاة والسلام – منه: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع" [الترمذي]، ولا أتفق كذلك مع إطلاق عدم جدوى المناهج التعليمية والمواد الدراسية؛ فالأمر في النهاية عائد لمحتوى المنهج المقدم، وحاجة الطالب لطلبه، والنفع المترتب عليه عمليًّا.
وإنما المراد هنا التنبيه على أن الدراسة في المنظومة الدراسية صارت اليوم تقوم في الغالب على تراكم كمٍّ معلوماتي لا بناء علمي، وهو حَشد متراكم لكنه غثاء كغثاء السيل.
والتفوق الدراسي لا يعدو في حقيقته سوى استظهار أكبر كم من ذلك الغثاء لصبه في ورقة إثبات معرفته، فتتفوق وننتقل من قالب معد سلفا إلى الذي يليه، ومع كل نقلة تتساقط التراكمات المعلوماتية كأوراق الخريف حيث لا عودة ولا مآب.
العلم هو الرحيق الرائق والأساس الراسخ لبنيان متين، وهو أصالة التمكن من الأصول
العلم في المقابل هو الرحيق الرائق والأساس الراسخ لبنيان متين، وهو أصالة التمكن من الأصول، مثلًا: حفظ مقالة كاملة عن تحليل شخصية في نص أدبي لا يعني البتة أنك متمكن من وسائل الكتابة أو صاحب ذائقة فنية، تمامًا كما أن محلل القصيدة إلى ألفاظ وتعبيرات ليس شاعرًا بالضرورة، كذلك دارس الطب الذي يمكنه تلاوة أعضاء ووظائف جسم الإنسان كما يتلو سورة الفاتحة، لا يعني أبدًا أنه متمكن علميا كطبيب أو ماهر كممارس، إلا بقدر ما يمكن أن نقول إن كل تالٍ للفاتحة هو مجوّد للقرآن!
بل إن الاستذكار بهذه الصورة المعلوماتية يقتل الهوية الفردية التي تميز العالم المبدع، الذي حاز أصول العلم من أطرافه وصار قادرًا على تقليب الفكر والنظر فيها ليضيف ويعدّل وينفع، عن المتن المتنقل الذي مبلغه من العلم حسو كحسو الطائر.
ويكفي أن يُعلَن عن انعقاد اختبار للمستوى العلمي للمعلمين في أية مرحلة دراسية كانوا، خارج المحفوظات المقررة، ليظهر جليًّا أن كثيرًا من المعلمين أنفسهم لا يحيطون من مادتهم إلا بالكلمتين في المقرر، وأن القدوة العلمية للطالب هي أول من تعاني من ركود حاد وعسر شديد، فإن لم ينقلوا هذه الفلسفة للطلبة بالكلام نقلوها بالأفعال: "احفظ الكلمتين أمامك"، "تعبير الكتاب"، "نص الكتاب"، "موضوعات التعبير بالشبر"، "التذوق الفني بالحفظ"، وهلم جرا!
ليس كل معلّم عالِم، ولا كل عالِم معلّم، فالعلمَ أكبُر من أن يَحوزَه فرد، وأوسعُ من أن يحيط به واحد، وإن كان المعلّمَ نـفسَه
لذلك ليس كل معلّم عالِم، ولا كل عالِم معلّم، فالعلمَ أكبُر من أن يَحوزَه فرد، وأوسعُ من أن يحيط به واحد، وإن كان المعلّمَ نـفسَه، فمهما كان المعلّم حُجَّة فيما يُعلِّم، تظل قيود الوقت وضوابط المنهج مانعًا أمام "تحويل" الطالب إلى تلك الحجة؛ فالمعلم إنما يُسلِّم الطالب مفاتِح العلمِ لا العلمَ نفسَه، والمعلّم كُالرُبَّان، الذي يعلّم ملّاحا مبتدئًا من أفانين المِلاحة وأصولها ما يُمكنُّه من الإبحار وَحدَه على بصيرة، وهل كان ذلك الربان يومًا إلا ملاحًا مبتدئًا؟ وهل كان المعلّم يومًا إلا تلميذًا حَدَثًا؟
هذا وشتّان بين الثقافة المسؤولة التي تنشأ عن حاجة حقيقة إليها، فتحدِث أثرًا أو تكون سببًا في أثر ينفع الناس، والمعرفة الباردة أو الترف الفكري أو التُّخَمَة الثقافية – سِيّان - التي منشؤها في الغالب "الأهمية المتوهمة"، لا بد أن نحفظ هذا؛ لأن المقرر الدراسي يملي علينا ذلك، لأن قوالب المجتمع لن تقبلنا بغير الشهادات المختومة، التي تفيد بأننا "اجتزنا" المرور على تلك التراكمات، بغض النظر عن فائدتها أو أثرها!
هذا النوع من المعرفة الباردة، التي لا تتعدى ثلاجات الأذهان، ولا تثمر حركة دافعة ولا قوة دافقة تطور الحياة وتنميها، هدف رخيص لا يستحق إشغال النفس ساعات فيه، فكيف بإفناء أعمار في ركابه؟! وما القيمة التي عادت علينا في حل مشاكلنا من اكتظاظ رفوف المكتبات بالدراسات والرسائل، واكتظاظ الأدمغة بمضموناتها وتوليفاتها؟
تمكّن من أصل العلم تبلغ فروعه تلقائيًا، وليكن لك في مقابل القوالب الدراسية مدرستك الخاصة وعلمك الحقيقي وأساتذتك القدوة
ختامًا،
إذا لم يكن من الانتساب للمنظومة الدراسية بد مراعاة لأعراف اجتماعية أو رغبات والدية، فلا مفر من أن تصنع بنفسك لنفسك خطًا موازيًا، فتَحُد ساعات الدراسة في مقابل مساحات التعلم الذاتي، في عالم أبواب المعرفة فيه مفتّحة على مصراعيها، تمكّن من أصل العلم تبلغ فروعه تلقائيًا، وليكن لك في مقابل القوالب الدراسية مدرستك الخاصة وعلمك الحقيقي وأساتذتك القدوة، تستقي منهم المبادئ والفكر والأصول التي بها تحيا، وقتها يُرجَى ألا كبير ضرر عليك من عمليات التفريغ في ورقة الامتحان آخر العام، لكن إذا لم يكن لك من العلم حظ سوى تلك الورقة، تأكد أنك بزوالها زائل لا محالة مهما حَمَلتك شهادات وألقاب حتى حين!