كانت لي زميلة أيام الدراسة الجامعية محبة للترجمة كل الحب، وغاية أمانيها أن تعمل كمترجمة بعد التخرج، ومن عجب أنها – مع ذلك – كانت صاحبة تقديرات ضعيفة في مادة الترجمة على مدار سني الدراسة الأربع، لما التقيتها من قريب، وجدتها ما زالت مقيمة على أمنيتها تلك، وقد طرقت أبواب عديد من مكاتب الترجمة، غير أنها أوصدت كلها دونها، ولم تحظ – حتى لقائي الأخير بها – بأية بشارة تطمئنها أنها على الطريق الصحيح لتحقيق حلمها!
كنت قد سألت زميلتي تلك أيام الدراسة عما يجعلها مستمسكة بالترجمة على ضعيف تقديرها وتحصيلها فيها، فكانت تجيب بأنها تود أن تساهم في نشر الدعوة وتبليغ الرسالة باللغة الأجنبية التي تدرسها، وخير سبيل لذلك هو الترجمة، أكبرت في زميلتي طموحها الكبير ونيتها الحسنة، لكنني لما أتبعتها بالسؤال الفصل في تحقيق أي حلم، خبت لدي جذوة ذلك الإكبار، وشعرت في قرارة نفسي أنها كمن يبغي بلوغ الثريا بقشة! فقد سألتها: "فما هي خطتك إذن لتحقيق تلك الغاية التي تبدأ بتحسين تقديرك في هذه المادة؟" هزت كتفيها، وابتسمت قائلة: "لقد عقدت النية إن شاء الله والتوفيق من الله تعالى!" فما كان مني إلا أن أثنيت على "نيتها" الحسنة خيرًا، وشددت على حسن الثقة بالله، لكن مع إشارة إلى أنه لا بد من "فعل" ملموس للوصول لمستوى يُعتد به في التمكن من اللغتين.
المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلامًا لذيذة في نفوس أصحابها، ولا تتحول لحقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة
في كتاب "جدد حياتك" يقول الشيخ محمد الغزالي: "إن المجد والنجاح والإنتاج تظل أحلامًا لذيذة في نفوس أصحابها، ولا تتحول لحقائق حية إلا إذا نفخ فيها العاملون من روحهم، ووصلوها بما في الدنيا من حس وحركة"، وفي ذلك القول كل الصحة؛ فليس منا إلا وله في دنيا الأحلام صولات وجولات، ولكن تظل أرض الواقع هي المحك والفيصل بين الخيالات الجامحة، والإنجازات الفعلية، ويظل الحالمون كثرة، والمنجزون قلة، والحد الفاصل بين الفريقين ليس في الأحلام ذاتها، ولكن فيما يتخذ من خطوات لتحقيقها؛ فالأحلام جسد هلامي، والخطوات هي الروح التي تبث في هذا الجسد، فكما أن الجسد يهمد بلا روح، كذا تهمد الأحلام بلا أفعال، وتظل هائمة في رؤوس أصحابها، يزداد حنينهم وشوقهم إليها، ويزداد معه إحباطهم وسخطهم على الواقع إذ حال بينهم وبينها.
والفشل في تحويل الأحلام لأفعال ليس جهلًا بحقيقة أن الأحلام وحدها لا تصنع شيئًا، بل هو في الأغلب تكاسل عن اتخاذ الخطوة الأولى؛ فالكثير قد يخطط لتحقيق أحلامه، لكنه يقف عند تلك المرحلة، فلا يعدو إلا أن يكون قد حول حلمه إلى كلام على ورق، والكلام لن يغني عن الفعال شيئًا، وسبب استثقال الخطوة الأولى يعود في الأغلب لاستصغارها، كلنا يسمع عن المخترعات العظيمة والإنجازات الجليلة التي خدمت البشرية، وكلنا له حلم أو حلمان واسعا المدى، وكلنا يؤخذ بعظمة تلك وسعة هذه، فيفوته القول الحكيم: "إن الصغيرات تتراكم"، وكذلك "معظم النار من مستصغر الشرر"
الفشل في تحويل الأحلام لأفعال ليس جهلًا بحقيقة أن الأحلام وحدها لا تصنع شيئًا، بل هو في الأغلب تكاسل عن اتخاذ الخطوة الأولى
ألم نسمع أو نقرأ قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه" [أحمد]؟
هذا تقرير لحقيقة أن الكبير ليس إلا صغيرًا متراكمًا، والخطوة الأولى – على صغرها – تستتبع ثانية وثالثة ورابعة، كما أن المواظبة على قدر من الإنجاز – وإن قل – والاستمرار عليه، هو المفتاح لتحقيق أي شيء على الإطلاق، لذلك قال أرسطو "النجاح عادة، وليس خيارًا مؤقتًا"، ولذلك علمنا الحبيب المصطفى، عليه الصلاة والسلام أن "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل".
النجاح مسؤولية فردية وليس ترفًا للنخبة
كثيرًا ما يتبادر للذهن عند الحديث عن النجاح والتفوق والتميز، أنها هبات لنخبة من البشر، وأن أصحاب "المواهب" والطفرات العقلية هم الفئة المختارة لتنعم بتلك الرفاهيات، والحق أنني في كل ما قرأت من قصص "العباقرة" و"النوابغ" و"الناجحين"، وجدت قاعدة شدد عليها وقررها: ليس الأمر موهبة بقدر ما هو جهد دؤوب، وخطوات دائمة، وعمل مثابر، لقد جعلوا النجاح عادتهم، والإنجاز اليومي دأبهم، فكان التوفيق حليفهم، وإننا لو تأملنا في قَصَصِ قادة التاريخ ومشاعل الإنسانية، مثل "هيلين كيلر" التي ألَّفَت الكتب وهي عمياء صماء بكماء، و"توماس أديسون" الذي توصل لاختراع المصباح، بعد تسع وتسعين محاولة لم ترَ أيُّ منها النور، و"آينشتاين" عالم الرياضيات، الذي كانت الأصفار تزين شهاداته المدرسية، في تلك المادة عَينِها، وغيرُ ذلك كثير، لوجدنا أننا ما سمعناها ولا قرأناها، إلا في إطار عدم الاستسلام لبراثن اليأس عند الفشل؛ لأنه ما من ليل وإن طال إلا ويَعْقُبُه نهار، ومن لم يفشل فلم يَذُقْ حقيقة طعم النجاح، والفشل ليس نهاية العالم، وإنما بداية طريق مُتوَّج بأكاليل الغار... إلخ.
النجاح ليس المحصلة "الطبيعية" للفشل، فمتى توفر العزم وتَأتَّت الهمة، ستُؤْتِي حتما أُكُلها
ولكن هناك إطار آخر لتلك الصور؛ فالنجاح الذي حققه أولئك – والنجاح بشكل عام – ليس المحصلة "الطبيعية" للفشل، وإلا فالعالم مَليء بالفاشلين المقيمينَ على فشلهم! إن الفضل – من بعد الله تعالى – لتلك النعمة العظيمة التي كثير منا عنها غافلون، وهي طَوْعُ أيدينا ورهْن إشارتنا، متى توفر العزم وتَأتَّت الهمة، ستُؤْتِي حتمًا أُكُلها: التعلم والتطوير الذاتي.
قارن هذا بمن ينفق إجازته الأسبوعية نائمًا في السرير، أو مفترشًا الكنبة أمام التلفاز، بضع ساعات هنا، وبضع هناك، وينتهى يوم بكامله، ثم عدة أيام، ثم في المحصلة عمر بكامله! والأخطر أن يألف المرء الخمول والكسل، فيستنفد ذلك نشاطه العقلي، وقدرته حتى على الخيال والأحلام، لكنه في المقابل، لو أنفق بضع ساعات كل أسبوع في تعلم مهارة، أو اكتساب علم، أو احتراف هواية نافعة، لكان قطع شوطًا والخطوة تدل على أختها.
ويظل القانون الإلهي الخالد: من يعمل يره، ومن لا يعمل فلا يلومن إلا نفسه، والله ولي التوفيق.