صراحة لا أعلم من أين أبدأ رسالتي لهذا الشعب الذي ضرب أقوى الأمثلة في الصبر والثبات والتضحية والمقاومة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلًا!
ولا أعلم هل هذه الرسالة وحدها تكفي لتكون معذرة أمام الله تعالى على تقصيرنا في حق إخواننا في العقيدة والعروبة والجوار والإنسانية!
ولا أعلم هل ما سأسطره سيكون كافيًا للتخلص من وخز القلب وتأنيب الضمير!
ولا أعلم هل شعب غزة سيقبل رسالتي إليه أم أنه سيشيح عني بوجهه احتقارًا لشأني وازدراءً لحالي ورفضًا لرسالتي!
إن شعب غزة لو رفض رسالة اعتذاري إليه فله كل الحق، ولكن...
• ظننا بشعب غزة أنه قد حصَّل من شيم الكرام أسماها وأنه سيقبل كلامي وسيصغي لرسالتي بالرغم مما أصابه من طعنات وما لاقاه ويلاقيه من مرارات وويلات!
• وظننا بشعب غزة أنه يدرك تمامًا أننا في الدول العربية عامة ودول الطوق خاصة في حال لا نحسد عليه... فلقد تعددت الأقنعة والمسميات ولكن الاحتلال واحد، واللبيب بالإشارة يفهم!
ما يلاقيه إخواننا في غزة تشيب له الولدان، وتخر له الجبال هدًّا، ومن له قلب يموت من هوله كمدًا، وبرغم كل ذلك نراه لا يحرك قلوبًا غلفًا وأذانًا صُمًّا وأعينًا عُميًا!
شهادة من شاهد عيان
إننا مهما وصفنا ما يحدث لإخواننا في غزة فلن يكون وصفنا كوصف "شاهد عيان" عاش المأساة واكتوى بنارها، لذلك سننقل مقتطفات مما كتبته الدكتورة "كفاح أبو هنود" (دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن وكاتبة وناشطة فلسطينية) على حسابها الشخصي حين قالت: "نحن نباد بهمجية لم تحدث في التاريخ من قبل.. ولا أحد يحرك ساكنًا..
• هل تتخيلون.. العمليات القيصرية تجرى بدون تخدير؛ لعدم توفر البنج.
• عشرات المواليد في الحضَّانات استشهدوا؛ لانقطاع التيار الكهربي والأكسجين عنهم..
• الأطفال الذين نجوا من القصف يموتون من الجوع والبرد الشديدين..
• علاوة على كل ذلك رأينا أن الجرحى والمصابين دُفِنُوا في قبور جماعية وهم أحياء..
• لقد هُجِّرنا من بيوتنا بعد أن قصفت على رؤوسنا.. وخرجنا من تحت الركام والأنقاض بأعجوبة بفضل الله ورحمته.. نعم نجونا من الموت ولكننا لا نعلم هل سننجو من الجوع والمطر والبرد الشديد!
• هل تصدقون أننا في كل ليلة ندعو الله أن يحبس الأمطار ويمنعها عنا لكي لا تغرق الخيام..
• هل تصدقون أننا قد أرسلنا نطلب فتوى بجواز التيمم بدلًا من الاستحمام!
• تخيلوا.. بناتنا.. بناتكم.. بنات المسلمين.. حين يتطهرن من الحيض يبكين بحرقة لاضطرارهن للتيمم بدل الغسل! هل تعلمون لماذا؟ لأننا لا نملك ترف الاغتسال.. وإذا أردنا الاستحمام يجب انتظار يوم تشرق فيه الشمس لنتمكن من إشعال الحطب لتسخين المياه لنتجنب البرودة الشديدة وإلا أصبنا بالمرض حيث يندر العلاج!
• هل تصدقون أننا نحتال على الأطفال ليناموا بدون عشاء، ونصوم اليوم تلو اليوم لنوفر الطعام للصغار الذين يستيقظون فجرًا وهم يتضورون من الجوع!
• هل تصدقون أن النساء والفتيات يجدن صعوبة بالغة في الحصول على الفوط النسائية، ونطلب من بناتنا الاقتصاد في استخدامها قدر الإمكان بالرغم مما قد يسببه هذا من مشاكل صحية لا تخفى عليكم..
إخوتنا المسلمين.. هذا غيض من فيض من معاناتنا اليومية في تأمين متطلبات الحياة الأساسية.. يقهرنا ويؤلمنا تخلي البعيد وخذلان القريب من إخوتنا العرب والمسلمين! ومع ذلك.. نحن بحمد الله وفضله صامدون ثابتون على أرضنا، واثقون بوعد الله بالنصر والتمكين، وهزيمة العدو واندحاره من أرضنا المقدسة على أيدي شبابنا الطاهرة المتوضئة.."
وتختم كلامها قائلة: "حسبنا الله على كل من خذلنا وتقاعس عن نصرتنا.. والله لن نسامحهم وسنحاججهم يوم القيامة حين نقف بين يدي الله تعالى العدل الجبار المنتقم" انتهى كلام الدكتورة كفاح أبو هنود.
إن ما يلاقيه إخواننا في غزة تشيب له الولدان، وتخر له الجبال هدًّا، ومن له قلب يموت من هوله كمدًا، وبرغم كل ذلك نراه لا يحرك قلوبًا غلفًا وأذانًا صُمًّا وأعينًا عُميًا!
شعب غزة يتعرض للإبادة الجماعية، ولم يستطع جيش عربي واحد أن يُطلق رصاصة واحدة أو أن يمد فصائل المقاومة برصاصة واحدة!
قديمًا قالوا: "ما يؤلم الشجرة ليس الفأس التي تقطعها، ما يؤلمها حقًا أن يد الفأس من خشبها"
إن ما يزيد ألم ومرارة ما يلاقيه إخواننا في غزة أنه حدث على مرأى ومسمع أنظمة الدول العربية والإسلامية فلم يطرف لها جفن ولم يحرك فيها ساكنًا!
• إن شعب غزة يموت عطشًا، وبجواره نهر النيل يجري في مصر من أقصاها إلى أقصاها!
• إن شعب غزة يتضور جوعًا، وحوله من يموتون بسبب التخمة في باقي الدول العربية والإسلامية!
• إن شعب غزة لا يجد وقودًا لسيارات الإسعاف ويحمل موتاه وجرحاه على عربات تجرها الحمير، وبجواره دول الخليج تعوم على بحار من النفط!
• إن شعب غزة يعاني من نقص الدواء ويضطر الأطباء للقيام بالعمليات القيصرية للنساء وعمليات بتر أعضاء الجرحى والمصابين بدون مُخدر "بنج"، وهناك جسر جوي به أسطول من الطائرات يحمل جرحى الصهاينة لتقديم العلاج لهم في أكبر وأحدث المستشفيات!
• إن شعب غزة يُعاني من نقص في الكوادر الطبية، والحدود والمعابر مُغلقة في وجه المتطوعين من الطواقم الطبية الذين يريدون تقديم يد العون والمساعدة!
• إن بيوت ومدارس ومستشفيات غزة تدك بالقنابل التي لم تشهد الحروب لها مثيلًا، وحدود الأردن مفتوحة لإمداد العدو الصهيوني بكافة الأسلحة من مختلف الدول!
• إن شعب غزة يتعرض للإبادة الجماعية، والعرب لديهم جيوش يقدر عددها بأكثر من ٤ مليون جندي وأسلحة تقدر بمئات المليارات من الدولارات ولم يستطع جيش عربي واحد أن يُطلق رصاصة واحدة أو أن يمد فصائل المقاومة برصاصة واحدة!
• إن شعب غزة مُشرَّد في الشتات لا يجد ما يسد جوعه ولا ما يقيه من البرد، وبعض البلاد تقيم مهرجانات العري والعربدة والمجون تنفق عليها مليارات الدولارات، وتعقد صفقات لشراء اللاعبين وتنفق عليها مليارات الدولارات أيضًا!
• إن من لا دين لهم في بلاد الغرب تحركهم إنسانيتهم للتعاطف مع غزة، وأقرب الأنظمة العربية والإسلامية تخطط لتهجير أهل غزة والقضاء على المقاومة.
• ودولة جنوب أفريقيا تقاضي دولة الاحتلال أمام أكبر منظمة دولية مختصة، وباقي الأنظمة العربية والإسلامية تقف موقف المتفرج كأن الذي يجري في العروق بول خنزير!
• إن ما يُدمي القلب هو أن أكبر جهة إسلامية في العالم لإسلامي (الأزهر الشريف) لم يتخط دورها بيانات الشجب والإدانة التي لا تساوي ثمن الورق الذي كُتبت عليه!
إن كل هذا وغيره الكثير والكثير يصيب الإنسان بالغصة والحسرة والمرارة على ما وصل إليه العرب وما وصل إليه الإسلام والمسلمون، ويجعل الإنسان يتوارى خجلًا من أصغر طفل في غزة، ومن حرائر يقفن في طوابير لتحصل الواحدة منهن على ما يسد رمق أطفالها ويُسكِت قرقرة بطونهم!
هنيئًا لهؤلاء الرجال هذا النصر الذي لن يُغيّره توقيت نهاية المعركة مهما طال أمدها!
اعتذار واجب
إن العقل مهما قدح زناد فكره، واللسان مهما بلغت فصاحته، والقلم مهما كانت قريحته ملأى ببلاغة الأبجدية فإن كل ذلك سيكون ركيكًا في حضرة الدم النازف، والبيوت والمنشآت المُهدَّمة، والفاقة التي يعاني منها شعب تداعت عليه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، كل ذلك على مرأى ومسمع كل أنظمة دول الطوق ودول الجوار الذين كشفت الأحداث زيف عقيدتهم ووفساد عروبتهم، كما كشفت ما بينهم وبين قوات الاحتلال من حميمية، وسلام دافئ، وتطبيع مقيت!
إن قيمة كلماتي كما وصفها "غسان كنفاني" بقوله أنها: "تعويض صفيق وتافه لغياب السلاح"، السلاح الذي صنعه وتدرب عليه واستخدمه خير الرجال في خير البقاع فأذاقوا عدونا وعدوهم الويلات وكتبوا نتيجة المعركة منذ أول يوم! فهنيئًا لهؤلاء الرجال هذا النصر الذي لن يُغيّره توقيت نهاية المعركة مهما طال أمدها!
إنني أعرف أن اعتذاري هذا لا يعدو كونه كلمات، ولكني باعتذاري هذا أود أن تكون لي بصمة على الشرخ الذي أحدثته فصائل المقاومة في روح الكيان الصهيوني، والمسمار الذي دقته في نعش قوات الاحتلال، والوسم الذي ألصقوه على جبين المحتل اللقيط الغاصب، والعار الذي سيلحقه ويطارده حتى لو كُتِب له في الوجود بقاء بعد رحيله عن الأرض التي احتلها حينًا من الدهر.. وأود باعتذاري هذا أن أجفف دمعة يتيم، أو أربط على كتف مكلوم، أو أخفف الألم عن جريح!
نعلم أنكم بشر، وأن عدوكم خسيس، والحرب مُوجعة، والقصف أليم، والتهجير مُضنٍ، ولفقد الأحبة لوعة وأسى! ولكننا نوقن بأن الله تعالى لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها!
أخيرًا أقول
يكفيكم يا شرف الأمة ومصدر فخرها أنكم أعدتم إلى الأمة روحها التي كانت قد فارقتها فترمم جسدها وبليت عظامها!
إنكم يا شرف الأمة لا تدركون قيمة ما فعلتموه؛ فالعصفور لا يدري ما يُحدِثه صوتُه في قلوب سامعيه، والوردة لا تدرك ما يفعله شذاها في نفس من يجاورها، والنهر لا يعي أثر مائه العذب الرقراق على الأجساد الظمأى ولا على الأرض القاحلة!
اعلموا يا أشاوس غزة أن الله تعالى يختار أنقى جنوده لأنقى معاركه، وإننا والله نغبطكم على هذا الاصطفاء، نغبط أطفالكم وهم يرتلون آيات الصمود، ونغبط نساءكم وفتياتكم وهن يصغن قصائد العزة، كما نغبط شيوخكم وهم يحملون مشاعل الكرامة، وأمام كل هؤلاء رجال المقاومة وهم يواجهون أقوى جيوش العالم بشجاعة منقطعة النظير!
هنيئًا لكم يا أشاوس غزة أن جعلكم الله تعالى ستارًا لقدره يقطع بكم دابر أحفاد القردة والخنازير، ويكشف بكم سوأة أذناب الغرب من العرب الذين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا، ولأوقعوا خلالكم الفتنة، ولكانوا سيفًا مُسلطًا على رقابكم لصالح أعدائكم!
هنيئًا لكم يا أشاوس غزة أن جعلكم الله تعالى نموذجًا عمليًا نستشهد به ونحن نفسِّر آيات الذكر الحكيم وموعود النبي ﷺ في كتب الحديث، فيا له من فخر نلتموه ويا لها من منزلة سامية ارتقيتم إليها!
ثقوا يا أبطال غزة أننا لا ندغدغ مشاعركم بمواساتنا لكم فنحن نعلم أنكم بشر، ونعلم أن عدوكم خسيس، وأن الحرب مُوجعة، والقصف أليم، والتهجير مُضنٍ، وأن لفقد الأحبة لوعة وأسى! ولكننا نوقن بأن الله تعالى لا يضع ثمارًا على غصن لا يستطيع حملها، وأنه سبحانه لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها، وأنه سبحانه يكلف بالممكن لا بالمستحيل، وأنه سبحانه إذا كلَّف أعان، وقد مضت سُنَّة الله في الصراع بين الحقِ والباطل أنّه لا تمكين بلا تمحيص، وأن النصر العزيز يسبقه ضريبة عزيزة، ولنا ولكم في سيرة النبي ﷺ الأسوة والمثل، فلولا ما لاقاه بلال في بطحاء مكة ما مكَّنه الله تعالى من رقبة أبو جهل، ولولا ما بذله الصحابة في الغزوات والسرايا ما تهاوت أمام جحافلهم أعتى الإمبراطوريات، وما دانت لهم العرب والعجم!
أبشروا يا أبطال غزة فإنكم تُعبِّدون الطريق إلى المسجد الأقصى وسيُكتب لكم ثواب الركَّع السجود الذين سيفِدون للصلاة فيه من مشارق الأرض ومغاربها!
لذلك أقول لكم أبشروا يا أبطال غزة فإنكم بما تقدمونه من بذل تُعبِّدون الطريق إلى المسجد الأقصى وسيُكتب لكم ثواب الركَّع السجود الذين سيفِدون للصلاة فيه من مشارق الأرض ومغاربها: {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء: 51]
وأقول لكم ثقوا أنكم لستم في الميدان وحدكم - وإن بدا لكم ذلك - فإن كانت الجيوش قد خذلتكم فإن الشعوب قد أكبرتكم، واعلموا أن من خلفكم من يتقطعون ألمًا؛ لأن العذر قد حبسهم وحال بينهم وبين مشاركتكم جهادكم، ومن ورائكم أُمّة تغلي، ومارد محبوس في قمقمه، وأنه بفضل الله تعالى ثم بفضل جهادكم قد دبَّتْ الروح في هذا المارد وأنه يذوب شوقًا للقياكم ولمشاركتكم جهادكم، وهو كائن لا محالة.
وأذكركم يا أبطال غزة بأنكم بإذن الله ومشيئته ووعده ظاهرين على الحقِ، لا يضركم من خذلكم، وأن النصر حليفكم شاء من شاء وأبى من أبى!
هذه شهادتنا فيكم ولا نزكي على الله أحدًا!
طبتم وطاب جهادُكم، وقبلاتي لنعالكم قبل رؤوسكم!