لا تغفل عني فإني مكروب

الرئيسية » خواطر تربوية » لا تغفل عني فإني مكروب
لا تغفل عني فإنني مكروب - الصحبة الصالحة مواساة الصديق الحزين سيرين الصعيدي

قال المحدث يونس بن عبد الأعلى: "ما شاهدت أحدًا لقي من السقم ما لقي الشافعي، فدخلت عليه فقال: اقرأ علي ما بعد العشرين والمائة من آل عمران، فقرأت ولما قمت قال: لا تغفل عني فإني مكروب" (الذهبي: تاريخ الإسلام)

تأملت بهذه العبارة: "لا تغفل عني فإني مكروب" وتأملت قائلها، فهو ليس برجل عادي إنه الشافعي وما أدراك ما الشافعي، إمام مذهب الشافعية ومن ذاك الذي يجهل فضل الشافعي وتقواه واستقامته ومكانته في الدين والفقه والعلم والتقى والهدى، إلا أنّ مكانته تلك لم تمنعه من اعترافه بضعفه وحاجته لمن يسانده فيصرّح ويبوح لصديقه: "لا تغفل عني فإني مكروب"، ويتلقاها الآخر برحابة صدر وتفهم بدون أن ينكر عليه ما هو فيه، فلم يُذَكِره بمكانته ولا بعلمه ولم يعاتبه ولم يقل له كيف تكون كذلك وأنت ما أنت عليه، وماذا تركت لعوام الناس؟!

فالشافعي - رضي الله عنه وأرضاه - لم يكن بدعًا في كربه ولم يخالف الأنبياء وهم صفوة الله - عز وجل - من خلقه؛ فنبوتهم - عليهم الصلاة وأتم التسليم - لم تنتزعهم من بشريتهم فقد كانت تمر بهم حالة التعب والضعف والألم، ألم يقرع الحزن باب قلب المصطفى بوفاة زوجه خديجة وعمه حتى سُمي عام الحزن، ألم يقرع الخوف قلبه فيلوذ بأمّنا خديجة - رضي الله عنها - وأرضاها؟! فتبثه السكنى والطمأنينة حتى يهدأ - صلى الله عليه وسلم.

الظروف التي نمر بها في عصرنا الحالي من مشاهد يندى لها الجبين ويدمى لها القلب كفيلة أن تدك صروح الجبال فما بالك ببشر كحالنا

ألم تبيض عينا سيدنا يعقوب من البكاء والحزن على فقد يوسف الصديق عليهما السلام؟!، فقد قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، ومعنى كظيم: "مكظوم على الحزن، يعني أنه مملوء منه" (تفسير الطبري)، وتأمل خطاب الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97]، وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6]، وقد ورد معنى باخع أي مهلك وقاتل نفسك على أثر توليهم وإعراضهم عنك. (تفسير القرطبي)

وهذا قول الله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام: {وَيَضِيقُ صَدْرِي} [الشعراء: 13]

وهذا سيدنا أيوب عليه السلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]

وهذا حال سيدنا يونس عليه السلام: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]

ومن النماذج السابقة دلالة على أنّ الإنسان قد يصاب بحالة نفسية أو قل إن شئت بما يسمى اليوم في عصرنا بالاكتئاب فتضيق عليه نفسه، والدنيا بما رحبت، ولا يتنافى هذا مع قوة إيمانه وصلته بربه، والظروف التي نمر بها لا سيما في عصرنا الحالي من مشاهد يندى لها الجبين ويدمى لها القلب كفيلة أن تدك صروح الجبال فما بالك ببشر كحالنا، ويأتيك من ينكر عليك حالة الضعف أو الحزن والكآبة التي تمر بها وكأنه يُراد منك أن تكون كما الرجل الآلي لا تتأثر بكل ما يمر بأمتك من حولك!!

الإنسان كما يكون عرضة للإصابة بوعكة صحية في جسده كذلك نفسه جزء من جسده وكيانه قد يعتريها من الضعف والأمراض ما يعرضها للإكتئاب

وتأمل قول نبيّك المعصوم عليه أفضل السلام وأتم التسليم: "ما يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ من وَصَبٍ ولا نَصَبٍ ولا سَقَمٍ ولا حَزَنٍ حتى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إلا كُفِّرَ بِهِ من سَيِّئَاتِهِ" (صحيح مسلم)؛ فالحديث الشريف لم يستنكر على الإنسان هذه الأحوال التي قد يمر بها، ولم يتهمه في دينه، لذا من السنة في أذكار الصباح والمساء الاستعاذة من الهم والحَزَن، وفي ذلك دلالة على عرضة الإنسان لهذه الأمراض التي قد يُبتلى بها، ربما يُقدم بها البعض على الانتحار والعياذ بالله.

وقد ورد في صحيح مسلم: "... فلما هَاجَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الْمَدِينَةِ هَاجَرَ إليه الطُّفَيْلُ بن عَمْرٍو وَهَاجَرَ معه رَجُلٌ من قَوْمِهِ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ له فَقَطَعَ بها بَرَاجِمَهُ فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حتى مَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بن عَمْرٍو في مَنَامِهِ فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ فقال له ما صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ فقال غَفَرَ لي بِهِجْرَتِي إلى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال مالي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ قال قِيلَ لي لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ ما أَفْسَدْتَ فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ على رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللهم وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ"

فقال النووي في شرح صحيح مسلم: "أما أحكام الحديث ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو في حكم المشيئة"

ولا يُفهم من هذا الكلام تشجيع الناس على اليأس والاستسلام له والإقدام على قتل النفس - حاشا لله أن يكون هذا هو المقصد - ولكن القصد أن الإنسان كما يكون عرضة للإصابة بوعكة صحية في جسده كذلك نفسه جزء من جسده وكيانه قد يعتريها من الضعف والأمراض ما يعرضها للإكتئاب، وهنا على الإنسان أن يأخذ:

أولًا/ بالأسباب المادية

كالمداواة لقوله صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله فإن الله سبحانه لم يضع داء إلا وضع معه شفاء إلا الهرم" (سنن ابن ماجه)

ثانيًا/ بالأسباب المعنوية

كالتكاتف والتعاون وتفريج الكروب، ومواساة المحزون، وجبر الخواطر، وبث روح الأمل والطمأنينة في القلب المكسور.

إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق

ومن النصوص النبوية التي تحث على ذلك:

1. "اتق النار ولو بشق تمرة فإن لم تجد فبكلمة طيبة" (صحيح البخاري)

2. "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" (صحيح مسلم)

3. "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق"، [المستدرك على الصحيحين]

4. وورد عن سفيان الثوري قوله: "ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم"

5. وقد قيل: من سار بين الناس جابرًا للخواطر أدركته عناية الله في جوف المخاطر.

فما يدريك لعل الله يفرّج بك كربة عن قلب أخيك المسلم، وقد يُكتب له ميلاد جديد على يديك بكلمة واسيته بها في عز كسره أو سعة وبسطة في وجهك وقلبك وجدها عندك فلاذ بك وقد أُغلقت في وجهه كل المنافذ، فبَثثت فيه روح الطمأنينة وكنت ملاذه الآمن في وسط عواصف الخوف والقلق التي تعصف به، وضع نصب عينيك قول نبيّك صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" (صحيح مسلم)

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة حاصلة على الدكتوراة في العقيدة والفلسفة الإسلامية من جامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن. و محاضرة في جامعة القدس المفتوحة في فلسطين. كتبت عدة مقالات في مجلة دواوين الإلكترونية، وفلسطين نت، وشاركت في المؤتمر الدولي السادس في جامعة النجاح الوطنية حول تعاطي المخدرات. مهتمة بالقضايا التربوية والفكرية، وتكتب في مجال الروحانيات والخواطر والقصة القصيرة.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …