قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]
توطئة
ماذا بينكم وبين الله يا أهل غزة، تحاصركم دول العالم، وتعيشون في شظف من العيش، وتُحرمون من كل مُقومات الحياة، إلا أنكم تمتلكون عزيمة لو أرادت أن تقتلع الجبال من جذورها لفعلت، بإذن ربها.
بأبسط الإمكانات تعيشون، وبأبسط الإمكانات تتعلمون، وبأبسط الإمكانات تُعالجون مرضاكم وتصنعون أسلحتكم التي يركع أمامها كيان لقيط يكتسب وجوده من دعم ومساندة وتأييد القوى العُظمى التي في نظرتها للأمور عَوَر وفي حُكمها على الأمور عَوَار.
لم نسمع يومًا أن أحدًا من قادتكم العسكريين ذهب ليتلقّى تدريبًا في أي من الكليات الحربية في العالم إلا أن قادتكم تفوقوا بجدارة على كل من توفرت لهم كل سُبُل الدعم في هذا المجال!
إنكم يا أهل غزة اللغز الذي حيَّر العالم وتقزَّمَت أمامه كل القامات!
لنسائكم زئير يخلع قلوب أعدائكم، ولأشبالكم صمود يفقد عدوكم لبَّه وصوابه، فما بالنا بشبابكم ومُجاهديكم!
أهل غزة في وقت السِّلم يأخذون من النحل صفاته في النشاط والدأب، ويأخذون من النمل سعيه في تدبير المؤونة لوقت تنقطع فيه السّبُل
اتخذ الله منكم آلاف الشهداء فلم نجد منكم تأففًا ولا سخطًا ولا جزعًا؛ ليقينكم أن شهداءكم سيشفعون في أهليهم حتى يكون كل شعب غزة من أهل الجنة إن شاء الله تعالى!
خبِّرونا بالله عليكم يا أهل غزة من أي طين الأرض خلقتم! ومن أين تستمدون كل هذه القوة وكل هذا الثبات!
عوامل ثبات أهل غزة في "معركة طوفان الأقصى"
إذا تحدثنا عن عوامل ثبات أهل غزة في "معركة طوفان الأقصى" فهي كثيرة، بل أكثر من أن تذكر في موضوع كهذا، لذا سنذكر عاملًا واحدًا وهو تمسكهم بكتاب الله تعالى حفظًا ومدارسة وتطبيقًا.
وعند الحديث عن حال أهل غزة مع القرآن الكريم لا بد أن نرجع بالذاكرة للوراء ونسترجع حالهم مع القرآن الكريم قبيل المعركة!
إن أهل غزة شعب لا يعرف الراحة ففي وقت السِّلم تراهم يأخذون من النحل صفاته في النشاط والدأب، ويأخذون من النمل سعيه في تدبير المؤونة لوقت تنقطع فيه السّبُل، حتى إذا جاءت ساعة الصفر ودقت طبول الحرب فلا ترى إلا ليوثًا تزأر مُعلنة للعالم كله ما قاله الوالي العباسي (المهتدي بالله بن هارون الرشيد) بأنه: "لا يجتمع أسدان في غابة، ولا فحلان في عانة"، وهذا يعني أنه مهما بلغت قوة عدو أهل غزة فلن يسمحوا بأن يكون له موضع قدم على ترابها.
العالم كله لم يطرف له جفن وهو يشاهد الآلاف من شعب غزة يسردون القرآن الكريم في جلسة واحدة، لا فرق بين كبير ولا صغير، ولا رجل ولا امرأة، ولا شاب ولا فتاة، ولا فرق بين صحيح مُعافى وصاحب عُذر!
تربية شعب غزة على مائدة القرآن الكريم
لقد انبهرت دول العالم بصفة عامة والدول العربية والإسلامية بصفة خاصة وهم يرون إقبال شعب غزة بكل مراحله العمرية وبكل طوائفه على مشاريع القرآن الكريم مثل: (مشروع صفوة الحُفاظ) و (مشروع يوم الهمَّة القرآني)، فالعالم كله وقف على أطراف أصابعه ولم يطرف له جفن وهو يشاهد الآلاف من مختلف طبقات ومستويات وأعمار شعب غزة يسردون القرآن الكريم في جلسة واحدة، لا فرق بين كبير ولا صغير، ولا رجل ولا امرأة، ولا شاب ولا فتاة، ولا فرق كذلك بين صحيح مُعافى ولا بين صاحب عُذر!
على مائدة القرآن الكريم رأى العالم أطفالًا في عمر الزهور، ورأى الشيخ العجوز والمرأة الطاعنة في السن، وكذلك رأى الشباب والفتيات الذين نشؤوا في طاعة الله، كما رأى العالم شبابًا جاؤوا على كرسيهم المُتحرك، وشيوخًا فقدوا نعمة البصر إلا أن الله تعالى قد عوَّضهم بنعمة البصيرة، ورأى العالم الزوجان اللذان لم يمض على زفافهما إلا ثلاثة أيام، والحامل في شهرها التاسع، والشرطي مُرتديًا زيه العسكري، وكذلك رأى العالم أسرًا بكاملها تنضم لقافلة الحفاظ، وكل هؤلاء اجتمعوا في مسجد واحد يسردون القرآن الكريم كأنه عليهم أنزل!
وعلى مائدة القرآن الكريم رأينا الشابة (نور) بالرغم من مرضها الشديد تشارك في سرد القرآن الكريم مع "صفوة الحفاظ"، وعندما أصابها الإعياء الشديد وطلبوا لها سيارة الإسعاف أصرَّت على أن تكمل سرد آخر ثلاثة أجزاء وهي في سيارة الإسعاف، وقد كانت مكافأة الله تعالى لها أن اختارها هي وابنها من الشهداء في (معركة طوفان الأقصى)!
وعلى مائدة القرآن الكريم سمع العالم دويًا يخرج من المسجد كدوي النحل فذكَّرنا كل هؤلاء بمقولة القائد/ صلاح الدين الأيوبي عندما قام يتفقد خيام المجاهدين ليلًا فوجد أهل خيمة يُقيمون الليل ويقرؤون القرآن الكريم فقال قولته المشهورة: "من هنا يأتي النصر"
إن هذه النماذج ليست لمجموعات من (الدراويش) سفهاء الأحلام الذين يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم ولكنهم جعلوا من أنفسهم - بفضل ربهم - قرآنًا يمشي على الأرض، فهل تراهم يُفرِّطون في شبر من وطنهم أو يستسلمون لعدوهم خاصة إذا كان هذا العدو من أحفاد القردة والخنازير الذين وصفهم الله تعالى في كتابه الكريم بأنهم "أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ"! يقول تعالى: {تَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواۖ} [المائدة: 82]
بعد ذكرنا لكل ما سبق ليس غريبًا أن نجد أن أول ما يحرص عليه النازحون هو بناء خيام تحفيظ القرآن الكريم لأبنائهم وفتياتهم، وليس غريبًا أن نجد الطالبة (مريم محمد أبو عنزة) من "شرق خان يونس" تتم حفظ القرآن الكريم كاملًا في أحد مراكز الإيواء.
أول ما تشترطه حركة حماس هو تكوين (كتيبة الحُفَّاظ) من "قوات النخبة" التي تضم 10 آلاف مجاهد كلهم من أهل القرآن الكريم، إلا أنّ (كتيبة الحفّاظ) هي كوكبة من الحفّاظ المُتقنين!
برنامج تربوي وجهادي فريد لمجاهدي حركة حماس
في شهر إبريل من عام 2023م أطلقت حركة حماس مشروع "جند القرآن طليعة الفرسان" في حقول غزة بإشراف دائرة التعبئة والتوجيه في كتائب القسام ضمن جهودها المبذولة للنهوض بالحالة الإيمانية للمجاهدين، وإيمانًا منها أن الأقصى لن يتحرر إلا بالقرآن.
في نهاية المشروع أعلنت كتائب القسام تخريج 100 مجاهد من حفظة القرآن الكريم، سردوا كتاب الله على جلسة واحدة، وسلمتهم شهادات تكريم تحمل توقيع قائد هيئة الأركان محمد الضيف، وأكدت الكتائب أن فلسطين لن تحرّر إلا بالقرآن، مضيفةً "سرد القرآن الكريم من الصدور لا من السطور، لنشفي به صدور قوم مومنين في ميادين القتال وعند الزحف والفتح المبين"
إن أول ما تهتم به وتشترطه وتحرص عليه حركة حماس هو تكوين (كتيبة الحُفَّاظ) من "قوات النخبة" التي تضم 10 آلاف مجاهد كلهم من أهل القرآن الكريم، إلا أنّ (كتيبة الحفّاظ) هي كوكبة من الحفّاظ المُتقنين!
التراخي في البرنامج التربوي أو البرنامج التدريبي يكون سببًا في حرمان المجاهد من الترقي عملًا بمبدأ التوثيق والتضعيف الذي أخذ به علماء الأمة الأوائل
لقد جعلت كتائب القسَّام من شروط الانضمام العام للكتائب الخضوع لبرنامج شرعي وتربوي يبني الفرد بناء عقائديًا لا يقبل التفريط فيه، ولا التنازل عنه، ولا المساومة عليه، كما جعلت حفظ القرآن الكريم وإتقانه، وفهمه، والتعبّد به، شرطًا من شروط الترقّي.
واشترطت كتائب القسام خضوع الفرد فيها لبرنامج تدريبي "بدنيًا وعسكريًا" بنفس الحزم والصرامة التي خضع لها الفرد في البرنامج الشرعي والتربوي، باعتبار أنهما معًا كجناحي الطائر لا يغنى وجود أحدهما عن الآخر!
وشددت كتائب القسَّام على أن التراخي في البرنامج التربوي أو البرنامج التدريبي يكون سببًا في حرمان المجاهد من الترقي عملًا بمبدأ التوثيق والتضعيف الذي أخذ به علماء الأمة الأوائل.
يُذكر أنه في إحدى المقابلات التليفزيونية مع الشهيد "صلاح شحادة" سأله المذيع عن سبب صعوبة اختراق حركة حماس، فكان رده: "إن الفرد في حركة حماس يخضع لبرنامج (تربوي وتعبدي وتدريبي) لا يصبر عليه خائن!
إننا بحديثنا عن "حركة حماس" لا نكون قد قللنا من شأن بقية فصائل المقاومة ففروع الشجرة تستمد قوتها من جذعها، والجذع لا يقوى عل مقاومة التقلبات من دون جذور قوية تحمله، فالجميع خيار من خيار.
أخيرًا أقول
إن ما نراه من قوة وشجاعة واستبسال رجال المقاومة ومن خلفهم كل شعب غزة أمر طبيعي بسبب المبادئ التي تربوا عليها قبل بداية (معركة طوفان الأقصى)، فمن الطبيعي أن نجد أن صفوة الحفاظ هم صفوة الأخلاق وصفوة المجاهدين.
نساء غزة لا يلهيهن زواجٌ ولا إِنجاب ولا سعي عن حفظ كِتاب الله ومدارسته، كل ذلك جنبًا إلى جنب مع حسن تبعلهن لأزواجهن وحسن تربيتهن لأبنائهن
إن أهل غزة يُؤثرون العمل على القول، وجميعهم يتوارى عن المشهد تورعًا كما توارى من سلفنا الصالح (صاحب النقب)، فنحن لم نكن نعرف صاحب صيحة (ولَّعت) ولا صاحب صيحة (حلل يا دويري) إلا بعد أن ارتقوا إلى ربهم شهداء؛ فالله تعالى يختار خير جنده لخير معاركه، ولا نزكي على الله أحدًا.
إن غزة لا تُشبه غيرها من بقاع العالم لا في وقت السلم ولا في وقت الحرب، فأهل غزة قبل أن يكونوا أصحاب أرض فهم جميعًا أولياء دم، ولا يوجد فرد من أهل غزة إلا وفي اسمه المُدوَّن في هويته اسم شهيد، بداية من الطفل الرضيع وحتى الشيخ الذي بلغ من العمر أرذله!
وأقول:
إذا كان رجال غزة كما يقول تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 37] فـ "إن نساء غزة لا يلهيهن زواجٌ ولا إِنجاب ولا سعي عن حفظ كِتاب الله ومدارسته، كل ذلك جنبًا إلى جنب مع حسن تبعلهن لأزواجهن وحسن تربيتهن لأبنائهن"
هذه شهادتنا في مجاهدي المقاومة ومن خلفهم شعب غزة والله حسيبنا وحسيبهم وولينا ووليهم ولا نزكي على الله أحدًا.