جرى الظن السائد بأن الحرية تعني قمة اللامسؤولية، والحق أن الحرية هي مناط المسؤولية، ومهما تُرك المرء حرًّا (أو على راحته) بلا مسؤولية أو تكليف ممن حوله من البشر، فلا يغتر بذلك عن حقيقة مسؤوليته لا ريب في الحساب الإلهي الختامي.
وإذا كان الإنسان ممنوحًا حرية إرادة بقدر لقصد، فتلك الحرية حرية مسؤولة بالضرورة، أي يترتب عليها حساب ومساءلة عما صُرفت فيه وله، وهذه الخاصية الكامنة في الحرية – خاصية المسؤولية – هي مكمن عبء الحرية وثقلها على النفوس، بالرغم من التغني بطلبها ليل نهار؛ وذلك لأن "مسؤولية الحرية لازمة، وحرية المسؤولية ممتنعة"!
كيف هذا؟
1. مسؤولية الحرية لازمة
تعني أن قيمة الحرية في هذا الوجود مسؤولة بالضرورة، أي يترتب على إتاحتها للإنسان سؤالُه عما فعل بها؛ فالمسؤولية كامنة في الحرية، والحرية رديفة المسؤولية، طالما أن لك حرية بأي قدر، وإرادة عاقلة بأدنى حد، فثَمَّة مسؤولية مترتبة على مجرد وجود هذين فيك، على أية هيئة تستعملهما أو لا تستعملهما بعد ذلك.
2. حرية المسؤولية ممتنعة
تعني أنك أيها المخلوق لست حرًّا في أن تختار أن تكون مسؤولًا أم لا أمام خالقك، إنك سُتُسأل عن وجودك وعمّا عَمِلت فيه، أيًّا كانت اختياراتك بالفعل أو الترك، وسواء آمنت أنك تُسأل أم لم تؤمن بالحساب، من السؤال قرر خالقك أنه مُسائلك، انتهى.
لذلك.. فأهم منشأ لثقل الحياة على النفوس - أو بالأصح تثاقل النفوس - في خوض الحياة، هو نُكران مسؤولية الحرية أو كراهتها، هذه العقدة النفسية لا علاقة لها بكون الإنسان مسلمًا أو غير مسلم، بل لها علاقة بطبائع الأشياء.
لأن قيمة الحرية في هذا الوجود مسؤولة بالضرورة، تجد أن من لا يعتقد بالمسؤولية والحساب الأخروي، يفتقد قيمة الحرية، فتتساوى في عينِ هَواه كل الاختيارات
- فلأن قيمة الحرية في هذا الوجود مسؤولة بالضرورة، تجد أن من لا يعتقد بالمسؤولية والحساب الأخروي، يفتقد قيمة الحرية، بل يتحطم جوهرها عنده في الصميم، فتتساوى في عينِ هَواه كل الاختيارات - أهمها الموت والحياة - تساويًا عَدَميًّا؛ فلا فارق بين اختيار أو غيره لأنه لا معنى في اختيار دون غيره، طالما أنه لا حساب على أيٍّ من بعد، فحياته بتراء كما أن موته أبتر.
- وأما من يعتقد مسؤولية الحرية فبلاؤه أشد وأنكى؛ لأنه يعي عقلًا أنه محاسب مسؤول، وإن كان يتهرب من تلك الحقيقة نفسيًّا؛ فالإقرار العقلي يمنعه كامل الاستمتاع بالحرية استمتاع من لا يرجو ثوابًا ولا يخشى عقابًا، وفي ذات الوقت يغريه هواه باتباعه، وربما غَيَّبَ عقله في كثير من الأحيان، فيطيش طَيْش من لا يُسأل، ويتمنى لو أنه لن يُسأل، ويؤذيه أن يَذْكُر أو يُذَكَّر ولو عَرَضا خاطفًا أنه سيُسأل، فتتنازَعُه لذة اتباع الهوى حين يُطمَس عقله، ثم وخز الضمير حين يثوب رشده – إذا ثاب - فيعيش بينهما ذاهِلًا شَقيًا كالذي يتخبَّط من المَسّ!
ختامًا،
الهرب من ثقل مسؤولية الإرادة ليس حلًا، بل ليس اختيارًا متاحًا على الحقيقة لمن فَقِه ما سبق، ذلك أن تولية ظهرك لأمر قد وقع لن يلغي وقوعه، ولن يعفيك من نصيبك في التعامل معه، وقد قرر الله تعالى ألا ملجأ منه إلا إليه، وأنّ الفرار حين يقع من ابن آدم يكون فرارًا إلى الله لا منه.
وكل صور الهروب التي نُغرِق فيها لا شعوريًا لتلافي مواجهة مسوؤلية الوجود، خاصة إدمان الملهيات والتسالي وإهدار الأوقات على الأرائك أمام المرئيات أو في الأسرّة تحت الدُّثُر... كلها لا تزيد العقدة إلا استعصاءً والإشكال إلا استحكامًا، فإنّ ما تَفِرُّ منه لا بُدَّ ملاقِيكَ آخر المَطاف، وقت لا تنفع مواجهة وحين لا تنتفع بمحاولة.
يقول الشعراوي: "من واجبك ألا تستقبل وجودك في الوجود بهذه البلادة"