مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

الرئيسية » خواطر تربوية » مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم
مسؤولية التعلم ولو في غياب شخص معلم - هدى عبد الرحمن النمر

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة شوقي: "قم للمعلم وفّه التبجيلا"، ومعارضة إبراهيم طوقان لها في قصيدته "الشاعر المعلم"

على صراحة الثانية واقعيًا وصدق الأولى في المبدأ؛ فالعلاقة التي تربط المتعلم بالمعلم في عصرنا اليوم لم يعد محورها المعلم كما كان وقتها.

عصر اليوم هو عصر الصناعات: صناعة الذات وصناعة العلم وصناعة المعلم، ومن لا يصنع بيديه يهدر نفسه بيديه!

فقد كان العلم مُلْكًا لمن يُغالي الثمن وهو اليوم لؤلؤ مَكنون لمن يُحسِن التنقيب عنه.

اليوم أمامك كل هذه الامتيازات، من الإنترنت، إلى الوسائط المرئية والمسموعة، إلى وفرة في الكتب لم نشهد لها مثيلًا؛ فالمعرفة لم تكن متاحة من قبل للكل سواسية وبالمجان، كما هي في عصرنا اليوم، ومن ثَم لم يعد التعلم اختيارًا ولا التفوق رفاهية لمن أتيحت له كل تلك الامتيازات، بل صار حتمًا وواجبًا وأمانة، لا بد من الوفاء بها.

يستمر التهافت على الدّوْرات التي يتولى الأهل عبء الإنفاق عليها، في حين أن كل شيء اليوم  يمكن تعلمه ذاتيًا

ومع ذلك يستمر التهافت على الدّوْرات و"الكورسات" التي يتولى الأهل عبء الإنفاق عليها، في حين أن كل شيء اليوم - بلا مغالاة - يمكن تعلمه ذاتيًا، لمن أراد أن يفعل؛ فالمواقع والكتب والدورات والشروح الإلكترونية على الإنترنت، ما خَلَّت ولا أَبقَت فرعًا من المعارف إلا ولها فيها نصيب.

خذ مثلا أية لغة أجنبية – بما فيها اللغات الإفريقية والآسيوية – تَجِدْ لها آلاف المواقع، ذاتِ المواد المقروءة والمرئية والمسموعة، لشرحها بإسهاب، والمقبلون على تعلم اللغة العربية، تتوافر أمامهم آلاف المواقع والكتب الإلكترونية، لتعليم اللغة العربية بلغات وسيطة – أشهرها الإنجليزية، ومكتبات العالم كلها صارت مفتحة الأبواب على الإنترنت، والعديد العديد منها مجاني، حتى إن المكتبات العربية الإلكترونية أحرزت تقدمًا ملحوظًا.

والتشكيك المستمر في مصادر الإنترنت وموارده، صار حُجَّة قد وَهَنَت خيوطها؛ فالمصادر الموثوقة في ازدياد، والباحث الإنترنتي – كغيره من الباحثين – يكتسب خبرة في طرائق البحث، وحَدْسًا يُمَكنّه من تمييز الغَثِّ من السَّمين، ولكن الأمر يحتاج لمِران ودأب ومثابرة، شأن أية خبرة أو مهارة يكتسبها المرء في الحياة.

الفوضوية في طلب العلم الحر لن تبني علمًا حقيقًا ولا بنيانًا راسخًا، وإنما شذرات من هنا وهناك لا رابط بينها

ومن طرائف ما قيل لي حين كنت أعدّد فوائد الإنترنت، أن استخدامها كثيرًا ما يُحْوِج المستخدمَ لمعرفة اللغة الإنجليزية؛ وذلك حق.. لأن الإنترنت العربية لا تزال بحاجة للمزيد من التطوير والإمداد المعرفي، فيَحْسُن الاستعانة بلغة أجنبية وأشهرها الإنجليزية، في أمور البحث العلمي بالذات.

ووجه الطرافة في ذلك القول، أن ما تخيله القائل عقبة أمام استعمال الإنترنت، يُمْكِن في الحقيقة التغلب عليه باستعمال الإنترنت، من خلال آلاف المواقع التي تعلم الإنجليزية، من بينها مواقع عربية كذلك! وهكذا تصير العقبة غَلَبة، ويتحول الفشل إلى نجاح، بالجهد الذاتي وسعي الفرد في تطوير نفسه بنفسه.

هذا ولا غنى عن المنهجية في طلب العلم ولو كان الطلب ذاتيًّا، والاسترشاد بخبرات السابقين والاستعانة بموجه ولو عن بعد، والاعتصام بالدعاء وطلب الهداية؛ فالفوضوية في طلب العلم الحر لن تبني علمًا حقيقًا ولا بنيانًا راسخًا، وإنما شذرات من هنا وهناك لا رابط بينها.

وبذلك يظل الإشكال قائمًا وإن اتخذ شكلًا إبداعيًا؛ فإذا كنت مثلًا صاحب قراءات عريضة في أية لغة، ثم لا يمكنك أن تكتب مقالة سليمة اللغة حسنة الصياغة بغير أخطاء، فهذه قراءات غير واعية وغير نافعة بغض النظر عن كون موضوعها نافعًا أم لا، القراءة الواعية الممنهجة ليس بالضرورة ستنتج أديبًا أو شاعرًا، لكنها لا بد أن تثمر علمًا باللغة لفظًا وتعبيرًا، وروحًا وتذوقًا.

المنهجية الواعية في التعلم هي أساس الانتفاع بالعلم، وإلا فالعلم أكبر من أن يحيط به فرد، تمامًا كمن يريد أن يعبر البحر في الاتجاهات الأربعة كلها!

خيرُ ما تتولى من أمورك هو تهذيب نفسك وتطويرها، فاستثمر عمرك تَزدهرْ حياتُك، واستصحب النية الخالصة لله تَنْصلِحْ آخرتُك

يقول د. عبد الوهاب المسيري في كتاب "رحلتي الفكرية": "الرغبة المعلوماتية حينما تنهش إنسانًا فإنها تجعله يقرأ كل شيء حتى يعرف كل شيء، فيتنهي الأمر بالمسكين ألا يعرف أي شيء... المعرفة لا حدود لها والمعلومات بحر يمكن أن يبتلع المرء، ومن هنا لا بد من التوقف عند نقطة ما... فلو قرأت كل ما كتب عن تخصصي لقضيت سحابة أيامي أقرأ وأستوعب من دون أن أنتج شيئا"

ختامًا

رحم الله الشاعر القائل:

ما حكَّ جِلْدَكَ مثل ظُفْرك :: فتَولَّ أنت جميع أمرك

وخيرُ ما تتولى من أمورك هو تهذيب نفسك وتطويرها، فإنك أنفاسٌ معدودة، وكل يومٍ يَمضي، يُدْنِي من الأَجَل، فاستثمر عمرك تَزدهرْ حياتُك، واستصحب النية الخالصة لله تَنْصلِحْ آخرتُك، واللهَ أسألُ أن يحفظك ويسدد خُطاك.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتبة ومحاضِرة في الأدب والفكر وعُمران الذات. محرّرة لغوية ومترجِمة. مصممة مناهج تعليمية، ومقدّمة دورات تربوية، وورش تدريب للمهارات اللغوية. حاصلة على ليسانس ألسن بامتياز، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها.

شاهد أيضاً

العلمُ في زمن الجِهاد

لطالما كانت هذه المُفارقة الكبيرة بين جُهد العالِم وجُهد المجاهد، موضع مفاضلة دائمة عبر التاريخ. …