يتعامل الإنسان مع المهام الدنيوية بإحساس بالمسؤولية، فلا يجد راحة حقيقية حتى يؤديها على أكمل وجه، فكيف إذا كان الأمر متعلقًا بعبادة عظيمة كالصيام؟ الصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل هو فرصة روحية لتطهير النفس والاقتراب من الله عز وجل.
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: "إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به" [صحيح مسلم]، فالصوم عبادة مميزة ذات أجر غير محدود، وهو سبب للمغفرة، كما قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].
كان السلف الصالح يدركون قيمة هذا الشهر الكريم، فكانوا يستعدون له ستة أشهر بالدعاء أن يبلغهم الله رمضان، ثم ستة أشهر أخرى يسألون الله القبول. قال الحسن البصري: "إن الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا". لهذا، علينا أن نصوم "صيام مودع"، أي صيام من يدرك أنه قد لا يشهد رمضانًا آخر، فيخلص فيه العمل ويتقرب إلى الله بروح متجددة.
أولًا: التوبة النصوح قبل رمضان
التوبة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي انطلاقة نحو حياة جديدة، تبدأ بندم صادق، وعزم على عدم العودة إلى الذنب. يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8].
يُحكى أن سفيان الثوري بكى ليلة كاملة، فلما سُئل عن ذلك قال: "أخشى أن يختم لي بسوء". فالتوبة لا تعني فقط الرجوع عن المعاصي، بل تشمل تجديد العلاقة مع الله، وإحسان العمل، وترك كل ما قد يُنقص الأجر في رمضان.
ثانيًا: سداد الديون وكتابة الوصية
حقوق العباد عظيمة عند الله، فكما أن المسلم يسعى لاغتنام رمضان، يجب عليه أن يتأكد من خلو ذمته من أي حق للآخرين. قال النبي ﷺ: "نفسُ المؤمنِ معلَّقةٌ بدَينهِ حتَّى يُقضى عنهُ" [صحيح ابن ماجه].
كما أن كتابة الوصية من السنن المهجورة، وهي دليل على حرص المسلم على حفظ الحقوق حتى بعد وفاته، فقد قال النبي ﷺ: "ما حق امرئ مسلم له شيء يُوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" [صحيح البخاري].
ثالثًا: الخشوع في الصلاة والاستعداد لها
الصلاة هي عمود الدين، وهي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].
كان علي بن أبي طالب إذا حان وقت الصلاة يتغير وجهه ويقول: "جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان". فكيف بنا ونحن نقف أمام الله في صلاة التراويح والقيام؟ علينا أن نحرص على صلاة مودع، فنخشع فيها كأنها آخر صلاة نصليها.
رابعًا: اغتنام رمضان في الطاعة
رمضان ليس فقط امتناعًا عن الطعام، بل هو شهر القرآن والقيام والدعاء والصدقة. فمن أراد أن يُكتب له الأجر كاملاً، فعليه أن يجعل عباداته متكاملة:
تلاوة القرآن وتدبره: قال النبي ﷺ: "اقرَؤوا القُرآنَ، فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابِهِ" [صحيح مسلم].
قيام الليل: قال النبي ﷺ: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" [صحيح البخاري].
الصدقة والإحسان: قال النبي ﷺ: "أفضل الصدقة صدقة في رمضان" [الترغيب والترهيب].
صلة الأرحام: قال النبي ﷺ: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه" [صحيح البخاري].
خامسًا: الاستعداد لحسن الخاتمة
الخوف من سوء الخاتمة كان يؤرق الصالحين، فقد كان أحدهم إذا نام وضع بجانبه كفنه ليتذكر الموت كل ليلة. قال النبي ﷺ: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا استعملَه، فقيل: كيف يستعملُه يا رسولَ اللهِ؟ قال: يوفِّقُه لعمَلٍ صالحٍ قبلَ الموتِ" [صحيح الترمذي].
لهذا، علينا أن نجعل رمضان فرصة لتجديد النية، فنجتهد كأننا نصوم آخر رمضان في حياتنا، ونصلي كأنها آخر صلاة، ونعمل على طاعة الله كأنها آخر فرصة لنا.
سادسًا: حسن الظن بالله
إن العبد لا يدخل الجنة بعمله، بل برحمة الله، لكن حسن الظن بالله لا يعني الاتكال، بل الاجتهاد في الطاعة. قال النبي ﷺ: "لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهو يُحْسِنُ الظَّنَّ باللَّهِ" [صحيح مسلم].
لذلك، فلنحسن الظن بربنا، ولندعوه أن يرزقنا القبول في رمضان، وأن يعيننا على الطاعة، فمهما كان تقصيرنا، فإن الله واسع الرحمة.
ختامًا: لنصم رمضان كأنه الأخير
لو علمت أن هذا رمضان هو الأخير في حياتك، كيف سيكون حالك؟ هل ستضيعه في اللهو والتساهل في الطاعات؟ أم ستجعله أعظم رمضان في حياتك؟
لنتذكر أن أعمارنا بيد الله، ولا أحد يعلم إن كان سيبلغ رمضان القادم أم لا. فلنغتنم هذا الشهر، ولنجتهد في التوبة، وسداد الحقوق، والخشوع في الصلاة، وتلاوة القرآن، وصلة الرحم، والصدقة، وكل عمل صالح يقربنا من الله.
أسأل الله أن يرزقنا رمضانًا مليئًا بالطاعات، وأن يكتب لنا القبول، وأن يجعلنا من عتقائه من النار. اللهم اجعل هذا الشهر بابًا جديدًا للخير، ووفقنا لصيامه وقيامه على الوجه الذي تحب وترضى.