لماذا أُخفيت ليلة القدر؟ دروس إيمانية وحكم ربانية

الرئيسية » خواطر تربوية » لماذا أُخفيت ليلة القدر؟ دروس إيمانية وحكم ربانية
الأيام العشر - العشر الأواخر - أواخر رمضان - أيام العتق من النار - ليلة القدر (1)

إن من الحكم الإلهية في بعض التشريعات عدم تحديد أوقات بعض العبادات والطاعات بدقة، ومن ذلك ساعة إجابة الدعاء يوم الجمعة، والصلاة الوسطى، وليلة القدر. ويهدف هذا الإخفاء إلى تحفيز المؤمنين على استغلال الأوقات والاجتهاد في العبادة والمنافسة في الطاعات، مما يجعلهم في صلة مستمرة مع الله عز وجل.

ولذلك، اجتهد علماء الأمة في تحديد الأوقات المحتملة لبعض هذه العبادات استنادًا إلى نصوص السنة وأقوال السلف، غير أن هذه الاجتهادات تظل اجتهادات مأجورة، ويبقى الأصل أن هذا الإبهام يحمل في طياته فائدة عظيمة تتمثل في دفع الناس للاجتهاد طوال الوقت، وليس في وقت محدد فقط.

ليلة القدر.. أعظم ليالي العام

من بين الأوقات المباركة التي أُخفي تحديدها بدقة ليلة القدر، تلك الليلة التي قال عنها الله تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ۝ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ۝ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ۝ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1-5].

إنها ليلة عظيمة، ليلة مغفرةٍ ورحمة، ليلة تُكتب فيها مقادير السنة، ويستجيب الله فيها الدعوات، وينزل الملائكة بالرحمة والسكينة، ولذلك كان السلف يجتهدون في العشر الأواخر كلها، تحريًا لها واغتنامًا لأجرها العظيم.

اهتمام العلماء بليلة القدر

لقد أدرك علماء الحديث والفقهاء أهمية هذه الليلة العظيمة، فخصصوا لها أبوابًا في كتبهم، تناولوا فيها فضلها وتوجيهات النبي ﷺ في طلبها، ومن ذلك:

الإمام مسلم في صحيحه: "باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقاتها".
الإمام النسائي: "باب الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان وتحرّي ليلة القدر من لياليها".
الإمام البيهقي: "باب الترغيب في طلبها في العشر الأواخر من رمضان".
الإمام ابن حبّان: "ذكر البيان بأن الأمر بطلب ليلة القدر في السبع الأواخر إنما هو لمن عجز عن طلبها في العشر الغوابر".
الإمام ابن خزيمة: "ذكر الدليل على أن الأمر بطلب ليلة القدر في الوتر مما يبقى من العشر الأواخر لا في الوتر مما يمضي منها".

ما ورد في السنة عن ليلة القدر

أحاديث كثيرة جاءت في السنة تحثّ على طلب ليلة القدر في العشر الأواخر، وخاصةً في الليالي الوترية منها، ومنها:

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
"إنِّي خرجتُ لأُخبِرَكم بليلةِ القدْرِ، فتلاحى رجلان من المسلمين فَرُفِعَت، وعسى أن يكون خيرًا لكم، التمسوها في السَّبعِ والتِّسعِ والخَمسِ" [صحيح البخاري].

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال:
"التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى" [صحيح البخاري].

عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"كان رسولُ اللهِ ﷺ يجاورُ في العشرِ الأواخرِ من رمضان، ويقول: تحرَّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخرِ من رمضان" [سنن الترمذي].

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
"التمسوها في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ، والتمسوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامسةِ" [سنن أبي داود].

عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال:
"التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز، فلا يُغلبن على السبع البواقي" [صحيح مسلم].

لماذا أُخفيت ليلة القدر؟

إن الحكمة من إخفاء ليلة القدر وعدم تحديدها بوضوح تعود إلى عدة أسباب، أبرزها:

تحفيز المؤمنين على الاجتهاد
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري":
"الحكمة في إخفاء ليلة القدر، ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عينت لاقتصر عليها".
فلو كان وقتها معلومًا، لاقتصر كثيرون على العبادة في تلك الليلة فقط، ولكن بإخفائها يُجتهد في العشر الأواخر كلها، فيزداد الأجر.

تطهير القلوب من النزاعات
جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي ﷺ خرج ليخبر الصحابة بليلة القدر، فوجد رجلين يختصمان، فقال:
"إنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا لكم" [صحيح البخاري].
وهذا يدل على أن المعاصي قد تكون سببًا في حرمان الإنسان من بعض البركات والخيرات، فكيف بالمخاصمة في ليلة عظيمة كهذه؟

المداومة على العبادة
إن الله تعالى يريد لعباده أن يكونوا على صلة دائمة به، وليس فقط في ليلة واحدة. قال الإمام ابن رجب رحمه الله:
"إنَّ إبهام ليلة القدر أدعى إلى قيام العشر كلهِ - أو أوتاره - في طلبها، فيكونُ سبباً لشدَّة الاجتهاد وكثرته".

الاختبار والتمييز بين العباد
يُظهر الاجتهاد في العشر الأواخر مدى صدق إيمان العبد ورغبته في القرب من الله، فالمؤمن الصادق سيواصل العبادة في كل الليالي، وليس في ليلةٍ واحدة.

علامات ليلة القدر

ذكر العلماء بعض العلامات التي قد تدل على ليلة القدر، منها:

السماء تكون صافية، والجو معتدل لا حارٌّ ولا بارد.
الشمس تطلع صبيحتها بيضاء لا شعاع لها، كما ورد في حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه.
شعور المؤمن بالسكينة والطمأنينة، وكأنه يستشعر رحمة الله الخاصة في تلك الليلة.

كيف نغتنم ليلة القدر؟

لضمان نيل فضل ليلة القدر، يجب على المسلم أن يجتهد في العشر الأواخر كلها، ومن الأعمال المستحبة:

القيام والدعاء: كان النبي ﷺ يُحيي ليله في العشر الأواخر، كما قالت عائشة رضي الله عنها.
الإكثار من الدعاء: خاصةً الدعاء المأثور: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني".
قراءة القرآن وتدبره: فالقرآن نزل في ليلة القدر، فكيف لا يكون جزءًا أساسيًا من عبادتها؟
الصدقة والإحسان: فالأعمال الصالحة في ليلة القدر مضاعفة الأجر بشكل لا يعلمه إلا الله.

الخاتمة
ليلة القدر كنزٌ عظيم لا يُقدر بثمن، وأيُّ خسارة أعظم من أن يدركها العبد دون أن يغتنمها؟ لنحرص على الاجتهاد، ولنغتنم هذه الفرصة العظيمة، عسى أن نكون ممن يُكتب لهم القبول والنجاة في الدنيا والآخرة.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

مفهوم الشغف وتجارة بيع الأوهام

من آثار رواج ثقافة الشغف بين المسلمين التباس تصوراتهم لمفاهيم ومعايير "الحياة الطيّبة"، وبالتالي يتخبطون …