قال تعالى:
"إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" (القصص: 4).
وقال تعالى:
"وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ" (البقرة: 49).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
"صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا" (رواه مسلم).
وعن ثوبان مولى رسول الله ﷺ أن النبي ﷺ قال:
"يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا."
فقال قائل: "ومن قلة نحن يومئذ؟"
قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنّ في قلوبكم الوهن."
قال قائل: "وما الوهن؟"
قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" (صحيح أبي داود).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
"سيأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة."
قيل: "وما الرويبضة؟"
قال: "الرجل التافه يتكلم في أمر العامة" (صحيح ابن ماجه).
وقال الشيخ محمد علي اليعقوبي:
وعادتِ الناسُ للأصنامِ تعبُدُها
من خِسّةِ الناسِ لا من رفعةِ الصنمِ
توطئة
إن ظاهرة التدجين من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تتعرض لها الشعوب والدول على حد سواء؛ فالتدجين هو الاستسلام والخنوع للقوى الظالمة المستبدة...
إن القوى الظالمة المستبدة لا تقبل إلا أن يكون التدجين في شتى نواحي الحياة؛ خاصة الناحية الدينية والسياسية، ولا تقبل إلا أن يكون لكل طبقات المجتمع، خاصة طبقة النخبة والمنتمين للحركات الدينية والسياسية.
وعندما تنجح الطبقة الظالمة المستبدة في عملية التدجين، حينها يستنسر البغاث، ويستنوق الجمل، ويستتيـس العنزُ.
ولا سبيل لنهضة أي أمة إلا بالخروج من ذل التدجين، ووهن الإذلال، وسيطرة الخنوع، وشرك الترويض، ولا يكون ذلك إلا بنشر الوعي؛ واستلهام العزة من أجيال العزة التي لم تقبل الضيم، ولم تنزل على رأي الفسدة، ولم تسمح لنفسها يومًا أن تكون مطية ذلول الظهر، لا تشتكي، ولا تتمرد، ولا تثور؛ بل ترضخ لكل ما تريده منها، وما تمليه عليها الأنظمة الظالمة المستبدة دون تفكير ولا إعمال عقل. لأن كل جيل لا بد وأن يكون فيه فئة لا ترضى عن عبادة العجل بديلاً، وأن الثوم والبصل أفضل عندها من المنّ والسلوى!!
أولاً: تعريف مصطلح التدجين
من ناحية اللغة يُعرَّف مصطلح (التدجين) على أنه: القيام بتطويع الطبائع وإخضاعها، وجعلها أليفة، ومستأنسة، ومروّضة.
أما بالنسبة للمعنى العام لمصطلح (التدجين)، فهو يشير إلى سياسة التخويف والاستضعاف التي تمارسها جهات معينة، حكومية كانت أو دينية أو طائفية، ضد المجتمع ككل أو ضد فئة معينة منه، لأجل تحقيق أهداف وخطط معينة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال ممارسة سياسة الإذلال والتركيع والاستضعاف. وشتان الفرق بين الضعيف والمستضعف.
ثانياً: وسائل تدجين الشعوب وترويضها
لكي يقوم أي نظام مستبد بتدجين شعب أو طائفة من الشعب، يتبع هذا النظام مجموعة من الوسائل، نوجزها فيما يلي:
- تزييف الحقائق والثوابت بما يتناسب مع السياسة العامة التي يريد النظام المستبد ترسيخها، بغض النظر عن طبيعة هذه الحقائق والثوابت، دينية كانت أو قانونية أو اجتماعية.
- طمس الجوانب المشرقة والتخلص من الداعين إليها لكونها تهدد وجود النظام، ويكون ذلك عن طريق إلصاق التهم بكل من يريد نشر الوعي بين فئات المجتمع، وتصوير هؤلاء على أنهم مارقون يجب على الشعب اجتنابهم والتخلص منهم.
- بث الخوف لدى عامة الشعب، وإقناعهم بوجود خطر داهم يهددهم، وأن النظام هو حائط الصد بينهم وبين هذا الخطر، ولولا النظام لأصبح الشعب لقمة سائغة لأهل الشر في الداخل والخارج.
- إقصاء وشيطنة المعارضة الفاعلة، وحرمانها من أي فرصة للتواصل مع العامة، بل وتأليب الرأي العام ضدها.
- قيام النظام بافتعال المشكلات، وتبني من يقومون بدور المعارضة الشكلية حتى يقتنع عامة الشعب بأن هناك مساحة كافية من الحرية والديمقراطية، وأن النظام لا يبغي سوى المصلحة العليا للوطن.
- الاستحواذ على كل وسيلة إعلامية مقروءة أو مرئية أو مسموعة، وتشكيل الخريطة الإعلامية بطريقة تضمن إعلاء دور الفن على حساب الدين، ورفع دور العلم على حساب الإيمان، واستبدال كل ما هو هادف بما هو هابط. ونتيجة كل ذلك أننا لا نجد أي حقبة من الزمان تخلو من أمثال سالومي، وسجاح، وحمالة الحطب؛ ولا تخلو كذلك من أمثال بلعم بن باعوراء، وأبي رغال، ومسيلمة، وابن سلول.
- حرص النظام المستبد على تغييب وعي العامة من خلال القصف الإعلامي الموحد؛ فما تقدمه المنصة الفنية يتوافق مع ما تقدمه المنصة الدينية، ولكن بالأسلوب الذي يتمشى مع فهم كل شريحة، حينها تتساوى رسالة من يسمونه (رجل الدين) صاحب اللحية والجلباب، مع رسالة الفنانة الهابطة التي تأكل بثدييها. لذلك فإن أول ما يسعى إليه أي نظام طاغٍ ومستبد هو امتلاك آلة إعلامية تمجده وتسبّح بحمده ليلًا ونهارًا.
- تبني المفاهيم المغلوطة والترويج لها، من خلال الطعن في الثوابت، وازدواجية المعايير، والكيل بمكيالين؛ فما يُقبل من هذا يُرفض من ذاك، وما يُكرم عليه فرد يُحاكم عليه غيره.
- تمكين القدوات التافهة وتقديمهم على أنهم النخبة التي تعلم بواطن الأمور، والتي يجب على الشعب أن يستمع لرأيها ويستفيد من خبرتها.
- تأليه النظام، وإظهاره دائمًا في دور المنقذ، وأنه لا يوجد من يحل محله، وأن سقوطه يعني سقوط الجميع، واستباحة الوطن.
ثالثاً: أمور يتبعها النظام المستبد لضمان نجاح وسائل تدجين الشعوب
إن أول ما يسعى إليه أي نظام طاغي ومستبد هو العمل على غرس وتأصيل كل ما سبق من وسائل وذلك عن طريق ثمانية أمور أساسية نوجزها فيما يلي:-
أ) تغييب وعي الشعب، وإلهائه فيما يشغله عن معاناته الحقيقة؛ وعما يدور حوله من أزمات. يقول الدكتور علي شريعتي رحمه الله: "الاستحمار هو طلسمة الذهن وإلهاؤه عن الدراية الإنسانية والدراية الاجتماعية وإشغاله بحق أو بباطل، مُقدس أو غير مُقدس".
ب) نشر الجهل، وتسهيل الفسق والفجور بين طبقات الشعب.
ج) التأكد من وجود بطانة سوء في مختلف المجالات ترسخ لتمام ولاء الشعب للحاكم حتى يسهل على الحاكم السيطرة على الشعب دون شكوى ولا تمرد، بل لا تجد من الشعب سوى رضوخاً وخضوعاً مهما ساءت الظروف ومهما تدهورت الأحوال.
د) شغل المواطن بلقمة العيش حتى يكون الشغل الشاغل للمواطن هو تأمين لقمة العيش مهما كان ثمنها، ومهما تم غمسها في إناء الذل، وتقديمها على مائدة القهر.
هـ) تعظيم العادات والتقاليد والأعراف والموروثات الخاطئة التي تناقلها الآباء عن الأجداد. قال تعالى: " بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22}" (الزخرف: 22). وقال تعالى: "أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {62}" (هود: من الآية 62).
و) إقناع عامة الشعب بأن القيادة الموجودة هي أفضل قيادة يمكنها أن تحكم الشعب، وأنها وحدها القادرة على حمايته من أي خطر داخلي أو خارجي.
ز) افتعال نجاحات وهمية وتقديم وعود براقة وإنجازات لا صدى لها على أرض الواقع، كل ذلك من أجل أن يظل الجميع في نفس الفلك الذي رسمه لهم النظام.
ح) التخلص من كل الأصوات التي تطالب بالحرية وعدم الخضوع للذل والظلم والاستبداد، بل وشيطنة أصحاب هذه الأصوات وتحريض الشعب ضدهم.