لا يمكن لأي مؤسسة أو شركة أو حتى جمعية صغيرة أن تحقق النجاح والاستمرارية ما لم يكن لدى أفرادها التزام حقيقي وولاء صادق. فكيف إذا كنا نتحدث عن حركة دعوية أو تحررية تضم الآلاف من الأفراد، تواجه تحديات مصيرية، وتُستهدف بحرب مستمرة، ويقع على عاتقها تحرير وطن ومقدسات، والنهوض بأمة بأكملها؟
الالتزام، من حيث الجوهر، يتناقض مع الفردية وتقديم المصالح الخاصة على العامة، ويتطلب تجاوز الأهواء وحب الذات. فمن يتبنى الالتزام الحقيقي يكون أقرب إلى الصواب، لأن قراراته تنبع من المصلحة الجماعية لا من نوازع النفس. ولعل قول الإمام حسن البنا يختصر هذا المعنى: "نفوسكم هي الميدان الأول، إذا استطعتم عليها كنتم على غيرها أقدر."
أوجه الالتزام التنظيمي
الالتزام ليس مجرد تنفيذ أوامر؛ بل هو منظومة متكاملة تشمل عدة أبعاد جوهرية، منها:
1. الالتزام بالثوابت والأسس الدعوية
الثوابت الحركية والدعوية ليست مجرد شعارات، بل هي القواعد التي تشكل هوية الحركة، وتميزها عن غيرها. من هذه الثوابت اعتماد المرجعية الإسلامية، والإيمان بحق الأمة الكامل في فلسطين، من بحرها إلى نهرها، كأرض يجب تحريرها. كما يشمل هذا الالتزام المناهج التربوية، والوسائل التنظيمية مثل "الأُسر" و"الكتائب"، وغيرها من الهياكل التي تترجم الفكر إلى سلوك.
2. الالتزام بتوجيهات القيادة
الطاعة للقادة ليست شكلاً من أشكال التبعية العمياء، لكنها ضرورة لضمان وحدة العمل والتنظيم. ما لم تصطدم أوامر القيادة بثوابت شرعية أو ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فإن الأصل هو الالتزام بها. فالطعن في القيادة أو السخرية من قراراتها يضعف من هيبتها، ويشتت الصف، ويُفقد التنظيم فاعليته ومكانته.
3. الالتزام بوحدة الصف
الالتزام بوحدة الصف يعني نبذ الفردية والحرص على المصلحة العامة. لذلك يجب رفض أي محاولات لتشكيل تكتلات داخلية، أو تقسيم الأفراد وفق ولاءات فرعية. التنظيم الذي يتآكله الخلاف من الداخل يكون هشاً وسهل الاختراق. كما أن السعي خلف المناصب ولو على حساب الآخرين يناقض روح العمل الجماعي. وكما قال الشيخ محمد أحمد الراشد: "صانع الحياة لا يحتاج للألقاب، بل يقود من خلال التميز والإبداع."
4. الالتزام بقنوات النقد واتخاذ القرار
لكل تنظيم آليات داخلية للنقد واتخاذ القرار. الالتزام بهذه القنوات يحفظ الأخوة، ويصون وحدة الصف، ويحمي أسرار العمل. لا ضير من النقد البنّاء، بل هو ضرورة، شرط أن يتم ضمن الأطر التنظيمية لا عبر وسائل التواصل، التي تحوّل النقد إلى أداة للطعن والتهديم. هنا مسؤولية القيادة كبيرة في توعية الأفراد بهذه القنوات وتطويرها بما يناسب العصر.
مخاطر غياب الالتزام
قد يظن البعض أن الإخلال ببعض مظاهر الالتزام أمر بسيط لا يضر، طالما أن الفرد ما زال يتفق مع غالبية التوجهات. لكن هذا الاعتقاد يحمل في طياته خطورة بالغة، ومن أبرز أضراره:
1. الانزلاق التدريجي
من يبدأ بإهمال بعض الواجبات التنظيمية قد يجد نفسه مع مرور الوقت خارج الصف تمامًا. تبدأ الحالة بالتراخي في تنفيذ مهمة، ثم تتطور إلى تهاون في المبادئ، وتنتهي بالتمرد أو حتى التخلي الكامل عن المشروع الدعوي. وكما قال سيد قطب: "إذا انحدرت في مستنقع التنازلات، فلا تتهجم على الثابتين وتصفهم بالمتشددين، بل أبصر موضع قدميك."
2. إضعاف صورة التنظيم
حين يرى المنتسبون الجدد أو المناصرون أن الالتزام داخل الصف شكلي أو انتقائي، فإن ذلك يضعف ثقتهم بالحركة. هذا الانطباع السلبي يُفشل العملية التربوية ويؤثر على روح العمل الجماعي.
3. تشجيع التهاون بين الأفراد
عندما يُسمح بالإخلال دون محاسبة، تنتشر العدوى. إذ يقول البعض: "فلان لم يُحاسب، فلماذا أنا؟" وهذا يزرع الفوضى واللا انضباط، ويفقد القيادة قدرتها على السيطرة أو التوجيه.
4. تعاظم هوى النفس
الإخلال بالالتزام غالبًا ما يكون نتيجة تغليب المصلحة الذاتية. وهذه النزعة الفردية قد لا تقف عند حدود العمل التنظيمي، بل تمتد إلى حياة الفرد الدينية والشخصية. وكما قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم
5. خطر الاختراق الأمني
أخطر ما في الإخلال التنظيمي هو تهديد الأمن الداخلي. فغياب السرية، وتسريب النقد إلى خارج الصف، يفتح المجال أمام الأعداء للتغلغل، وابتزاز الأفراد، بل واختراق التنظيم. وكما قال سيد قطب: "يسقط أصحاب النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة."
الختام: الخسارة أفدح مما يُتصور
من يظن أن خروجه عن الالتزام يضر بالحركة فقط، فهو مخطئ. فالخسارة الأكبر هي خسارته الشخصية. فالحركات لا تقوم إلا بجهد الصادقين، وتضحية الأوفياء، أما المتخاذلون فسرعان ما يسقطون من ذاكرة الفعل، كما تسقط الأوراق اليابسة من الشجرة، دون أن تؤثر في أصلها الراسخ.