من آثار رواج ثقافة الشغف بين المسلمين التباس تصوراتهم لمفاهيم ومعايير "الحياة الطيّبة"، وبالتالي يتخبطون عند التطبيق بين: ما نشعر أننا نريده، وما يبدو أن الناس يريدون منّا أن نريده، وما نظنّ أنّ ربنا يريده منّا! فما هو "الشغف"، ذلك النجم الذي ترنو له كل العيون ولا تكاد تبصر له نورًا؟!
بالرجوع لمعجم [لسان العرب] في مادة "ش غ ف"، تجد ما يلي :
الشَّغَافُ : غِلَافُ الْقَلْبِ وغِشاؤُه وَسُوَيْدَاؤُهُ (وصَميمُه) .
شَغَفَهُ الْحُبُّ يَشْغَفُهُ شَغْفًا وَشَغَفًا : وَصَلَ إِلَى شِغَافِ قَلْبِهِ (ومَلَكَه عليه) .
الشَّغَفُ : أَنْ يَبْلُغَ الْحُبُّ شَغَافَ الْقَلْبِ .
شُغِفَ بِالشَّيْءِ : أُولِعَ بِهِ وأُغرِيَ وأٌغرِم (وفي مادة ولِع : الوَلَع شِبْهُ الْجُنُونِ) .
شَغِفَ بِالشَّيْءِ شَغَفًا : قَلِقَ .
إن التفكر في دلالات هذه التعريفات اللغوية للفظة "الشغف"، لا يوحي بنوع محبّة سَوِيٍّ أو محمودِ العواقب على الدوام، كما يروّج لذلك التصوير الجماليّ السائد لمفهوم الشغف في المواد التنموية. وحتى تعريفه اللغوي بالإنجليزية (Passion) وفقًا لقاموس كامبريدج، يفيد: مشاعر طاغيةVery Powerful Emotions ، حُبًّا أو بُغضًا أو غضبًا أو شهوة، أو غيرها من المشاعر؛ أو هو اهتمام مُفرِط Extreme Interest بنشاط أو عمل أو هواية ما. ومن الصفات المصاحبة لهذه اللفظة في الإنجليزية عادة صفة (Consuming) ، وتعني الاستغراق لحدّ الاستنزاف والاستهلاك لحدّ الإفناء أحيانًا. : He has a consuming passion for sports ومن الصفات المصاحبة الأخرى (وتشابه السابقة في إيحاءاتهـــا) : أعمى Blind ، عاتٍ Fierce ، ناري Fiery ، شديد Intense .
فإذا جئتَ تتأمل في دلالاته الترويجيّة في المواد التنموية، لا تقف له على حدود تعريف أو معايير، بقدر ما تشعر حوله بـ "هالة" فخامة، تنتابك تجاهها "حالة" من الانبهار! فهو تارة هبة لفئة محظوظة من البشر تعرف يقينًا منذ ولادتها مساراتها المستقبلية الغيبية! وتارة هو اكتشاف ذاتي مخبوء في مجاهل العمر، نعثر عليه ذات مرة إذا كنا محظوظين كفاية! وحينًا هو حياة الحب الذي يدفع لحب الحياة: بالعمل فيما تحب والتعامل مع من تحب، والإلقاء بخلاف ذلك من نافذة الوجود! ومؤخّرًا صار الشغف مرادفًا لحالة "ميل المزاج لشيء ما"، أحيانًا بتثبيت "الميل" في المعادلة تجاه شيء معيّن ليصير هو شغفك، وأحيانًا بتثبيت "المزاج" فوقتما راقك شيء صار شغفك، ولا إشكال أن يتغير الشغف كل ساعة طالما أنك تعيش "حالة" الشغف ومزاجك رائق!
ومن أهم تلبيسات ثقافة الشغف والمزاج على تصوّر الحياة الطيبة: تجـارة بيع الأوهام! فإذا عثرت على ما يَشغَفُك حبًّا فقد استكملت أركان السعادة السبعة والقواعد الأربعين للعشق والمفاتيح العشرة للنجاح! فالحياة ينبغي أن تقوم على ثالوث "المتعة والمال والحب" لتكون شخصًا ناجحًا مَرْضِيًّا عن نجاحه، لا ناجحًا في تقديرك الشخصي فحسب، أو تكـون "مؤمنًا قويًّا" بالترقيع الإسلامي. هنيئًـا لك إذن! فلا كَدّ ولا تعب ولا ملل ولا حزن، ولا شدّة ولا ضيق ولا كَرْب، ولا ذنب ولا زلل ولا فتور ولا انتكاس، ولا غيرها من المشتقات "السلبيّة" في قاموس الحياة الإيجابية! وإذن ما الداعي لقيم الصبر والمصابرة والمثابرة والإخلاص، ومفاهيم التوبة والإنابة والجهاد والكَبَد والاستعانة والتوكل؟! هذا قلب لمقاصد هذه المرحلة الامتحانية من الوجود، وعبث بخصائصها في الأذهان، وإيهام الخلق بنوع وجود غير الموجود.
وإن جوهر الإشكال هو تضخيم مفاهيم الشغف والمزاج والهوى من اعتبارات مؤثّرة أثناء الحركة، إلى الاعتبارات الحاكمة (بالألف واللام) على الحركة بلا منازع أبدًا أو غالبًا من باب الاحتراز! فلن تعيش إلا حياة واحدة كما يقولون (والأصل أنهما حياتان)، فعليك بما يُمليه عليك مزاجك وما يثير شغفك وما تهواه نفسك، وما سوى ذلك فألْقِه وراء ظهرك ولا تأبه . وإذا لم تكن "في المُوود" فلتنهدّ موازين الوجود! ويترتب على تأليه تلك القيم، أن يعيش غير الواجد لشغفه في وضعيّة تشغيل مؤقت مزعزع أو انتظار دائم متوتر، مترقّبًا لحظة عثوره على ذلك الكنز أو هبوطه من السماء في حِجره لـ"يبدأ" حياته! فلا يعنيه كثيرًا ما ورد في فضائل الأعمال "البديهية" والمعروف "السهل" الذي يحسنه "أي أحد"، كإغاثة مكروب أو تبسّم في وجه أو معاونة الأهل أو استكثار من نَفلٍ وقت قوة ونشاط . تلك الأعمال "الصغيرة" لا وجود لها في قاموسه الساطع الملتفت للمراد الأكبر والشغف المبهر!
وهكذا تجرّ حالة الانتظار تلك صاحبها للاستهانة والتفريط في المسؤوليات الأساسية "الواضحة"، لشدة تَلَهّيه بتصيُّد ذلك "المجهول". وليته على ذلك يحاول تصيّده فعليًّا بأية بادرة جادة، بل يكتفي بالاكتئاب والانتظار والتضييع للواضح بالفعل، فيجمع السّوءين: سوء فهمه لجانب، وسوء تفريطه في كلّ الجوانب الأخرى التي فهمها! ومن كانت يده صفرًا من الحاضر كيف يطمع أن يبني عليها يومًا ما مستقبلًا؟! ومن لم يجرّب في حياته شيًئا وهو جادّ كفاية في التعرف عليه، كيف سيقف على مناط شغفه أو ميل نفسه من عدمها؟! لكن صاحب الشغف في شغل عن كلّ "الحلول" المطروحة، بالانطراح تحت "حالة" انتظار بزوغ شمس الشغف!
ثم ماذا حين تفقد الشغف بالحياة نفسها مثلًا؟ ويَخفُت المزاج عن كلّ ما كنتَ تعمله بمزاج؟ يا من حققت الشغف وتعمل بمزاجك، كيف أنتَ حِينَ يأتي عليك حِينٌ تجد فيه الطاقة تتسرب من بدنك كنزيف جرح لا يَرقَأ ، وتنفَرِط حَبّات نفسك غَمًّا وكدَرًا كعِقد انتُزِع عَنوَة من عُنُق، فتثقل روحك عن تحمّل نفسك، ويكاد قلبك يتصدَّع من انطباق أضلاعك عليه، كأنها قضبان سجن أنت مادَّتُه وضحيّته في آنٍ معًا؟! ماذا حين تفارقك راحة النوم أو شغف النهوض من النوم، ويغدو كلّ شيء كان ذات يوم مثيرًا مذهلًا: رتيبًا قاتمًا؟ ودونك أهل الشغف والشهرة والظّفَر بمحاسن الدنيا مجتمعة، من المشاهير والنجوم وأصحاب الأعمال الناجحة، أليس أصحاب تلك الفئة ممّن يتصدّرون قوائم المنتحرين؟ واختاروا مفارقة دنيا قد حِيزَت لهم بحذافيرها كما يبدو؟!
ذلك لتعلم أنك لا تملك تقلّبات قلبك وسرّ روحك وتوجيههما على الحقيقة، ولو حُزتَ ما يبدو ظاهريًا أنه مفتاح سعادتهما. ذلك لتعلم أنّ الله يَحُول بين المَرء وقلبه، وأنّه من يخذله الله فلا ناصر له، وأنّه من لم يَجعلِ الله له نورًا فما له من نور .