الخراصون… الكذبة الذين لعنهم الله!

الرئيسية » خواطر تربوية » الخراصون… الكذبة الذين لعنهم الله!
quran251

من بين المفردات القرآنية التي نادراً ما يُسلَّط الضوء عليها، برزت كلمة "الخراصون" في مشهد من مشاهد التحذير الإلهي، لتصف فئة من الناس امتازوا بالكذب والافتراء والقول بغير علم، وهم الذين قال الله فيهم: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 10-13].

لفظ "الخراصون" في اللغة يعبّر عن الذين يتحدثون بالكذب ويظنون دون علم، ويطلق كذلك على من يُقدّر الأمور جزافاً ويُشيع الظنون دون بينة. وقد وردت مشتقات هذا الفعل في مواضع أخرى من القرآن الكريم، تحمل في طيّاتها دلالات التحذير والذم، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، وقوله أيضًا: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}، وكذلك في سورتي يونس والزخرف.

الجامع بين هذه الآيات أن "الخَرْص" جاء مرادفًا للقول بغير علم، والتشويش على الوحي، والتقوّل على الله ورسله، وتشويه العقيدة في أذهان الناس.

وهي خصال لا تقتصر على الكذب المجرد، بل تنسحب على افتعال الشبهات، وتزييف الوعي، وخلط الحق بالباطل، مما يجعل هؤلاء الخراصين من أخطر فئات المجتمع.

الخراصون هم أهل الظنون والشبهات، يتحدثون بغير علم، ويشيعون البلبلة والشك في العقيدة، وقد توعدهم الله باللعن لا القتل.

وإذا رجعنا إلى سياق سورة الذاريات، نجد أن الآيات تشير إلى أولئك الذين استهزأوا بيوم الدين وسخروا من البعث والنشور، واتهموا النبي ﷺ بالكهانة والسحر والجنون. يقول تعالى في سورة الفرقان على لسانهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا}، وهو شكل من أشكال التخرص الذي واجهته الدعوة الإسلامية منذ بداياتها.

وقد فسّر العلماء قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} بأنه دعاء عليهم بالهلاك أو بمعنى "لُعنوا" كما قال القرطبي، وليس المقصود به أمرًا بالقتل أو الإبادة الجسدية، بل هو تعبير عن شدة المقت الإلهي تجاه هذا النمط من البشر. ومثله قوله تعالى في سورة عبس: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}، أي لُعن وعوقب لا أنه يُقتل فعليًا.

وهنا تظهر خطورة التأويل الحرفي لبعض النصوص، خاصة حين تُؤخذ خارج سياقها اللغوي والشرعي، وهو ما تقع فيه بعض الجماعات المتطرفة التي ترى في هذه الآيات مبررًا لسفك الدماء. فيتصورون أن كل من يعارضهم أو يخالفهم في الرأي، هو من "الخراصين" الذين يجب قتلهم، متناسين أن الحكم على القلوب والمصائر هو من شأن الله وحده.

النبي محمد ﷺ، الذي نزل عليه هذا القرآن، واجه المنافقين والمخرصين في المدينة بكل حكمة، رغم أن الله قد كشف له بعضهم، إلا أنه لم يتعامل معهم بالسيف، بل بالحجة والرحمة والسياسة، حفاظًا على وحدة المجتمع الناشئ، واتساقًا مع الرسالة التي تدعو للعدل لا للفتك.

أخطر ما في التخرّص، أنه ليس مجرد كذب، بل هو افتراء على الله، يُلبِس الشك ثوب اليقين ويطعن في الثوابت باسم الظنّ

واليوم، تعود هذه الظاهرة في أثواب جديدة، عبر حملات التشكيك والتشويه التي تطال الدعوة والمقاومة والفكرة الإسلامية. وقد تكون المقاومة الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس، من أكثر من تتعرض لهذه التخرصات المعاصرة، إذ تُتهم وتُشوَّه وتُحمَّل ما لا تحتمل من الافتراءات.

لذلك، فإن التعامل مع هذه الظاهرة لا يكون بالرد العاطفي أو الانجرار إلى صراعات جانبية، بل باتباع المنهج القرآني والنبوي في كشف الكذب، وتحجيم أثره، وعزل أصحابه عن التأثير على وعي الجماهير. فالجماهير الواعية هي السدّ الحقيقي أمام كل مخرص ومُرجف.

ولا بد من تربية هذه الجماهير بالوعي والإعلام الصادق والشفافية، حتى تتمكن من التمييز بين الحق والباطل، وبين الغث والسمين. فوجود الكذابين والمخرصين سنّة من سنن التدافع، واختبار من اختبارات الثبات، كما أن فضحهم وكشف باطلهم مسؤولية كل من يحمل مشروعًا إصلاحيًا أو مقاومًا.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

الحياد في زمن الظلم: وعي أم تواطؤ؟

في خضم النزاعات التي تعصف بالمجتمعات، يختار البعض أن يلوذ بالصمت، ويتخذ من الحياد درعًا …