من بين أكثر أمراض القلوب خفاءً وتأثيرًا، يبرز داء حب الظهور، ذاك الذي يجعل من النفس صنمًا تعبده، وتُعلّق عليه آمالها في التقدير والمديح والانتصار في كل مشهد. ولعل أبلغ ما قيل في التحذير منه: "حب الظهور يقصم الظهور"، وهي مقولة تربوية عظيمة، تختصر أثر هذا المرض في تهشيم العمل، وهدم الجهود، وسقوط البركة.
لقد كان النبي ﷺ واضحًا في التحذير من الذين يطلبون العلم أو العمل أو الريادة لا لوجه الله، بل لتتجه إليهم الأبصار، فقال: "من طلب العلم ليُباهي به العلماء، ويماري به السفهاء، ويصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار". وقال أحد السلف: "ما أخلص عبدٌ قط إلا كره الشهرة"، لأن شهرة العمل تبتلع إخلاص النية، وتُلبس النفس ثوبًا ليس لها.
مظاهر خفية لآفة جليّة
من مظاهر هذا الداء: حب التصدر، الإصرار على الرأي، التشبث بالمكانة، الحساسية الزائدة من النقد، التعظيم المستمر للذات، وتضخيم الإنجازات الشخصية، بل وربما السعي لإفشال أي مشروع لم يكن لصاحبه فيه يد. وللأسف، يكثر هذا المرض في أوساط الدعوة والعمل العام، حيث تتاح للفرد منابر الكلام وفرص القيادة، فيختلط نفع الدين بمطامع النفس.
الأسباب العميقة لحب الظهور
رغم أن حب الظهور يبدو كميل فطري للبروز، إلا أن تفشيه كمرض له جذور نفسية وتربوية متعددة، منها:
- ضعف نية الإخلاص لله: عندما لا يُروَّض القلب على طلب رضا الله وحده، يبدأ في طلب رضا الناس وتقديرهم.
- الفراغ الداخلي والعاطفي: من يشعر بنقص داخلي في الثقة أو التقدير يسعى لتعويضه خارجيًا عبر تسليط الضوء على ذاته.
- البيئة التربوية المدلِّلة أو التنافسية المريضة: التي تزرع في النفس منذ الصغر أن التفوق لا يُقاس إلا بالتغلب على الآخرين وليس بالتكامل معهم.
- الإشادة المفرطة بالإنجازات الشخصية: مما يغرس الشعور بالأحقية الدائمة في القيادة والتميّز، ويضعف الاستعداد للمشاركة الجماعية المتواضعة.
- كليف غير المؤهلين بالمهام القيادية: مما يُضخم شعور التفوق ويحول الشخص إلى متعطش دائم للبروز، كمن تذوّق لذة الواجهة ثم رفض العودة إلى الصفوف الخلفية.
خطوات عملية للعلاج
علاج هذا المرض ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب جهادًا داخليًا صادقًا، وتربية مستمرة. ومن أنجع الوسائل لذلك:
- تربية القلب على التواضع: بأن يوقن الإنسان أن مكانته الحقيقية عند الله لا تُقاس بعدد المتابعين ولا كثرة الثناء.
- غرس الإخلاص من جديد: عبر مراقبة النية في كل عمل وتجديدها باستمرار، ومحاسبة النفس عند كل ميل خفيّ للبروز.
- التكليف الواعي والمسؤول: بتوزيع المهام في المؤسسات على أساس الكفاءة لا المجاملة، وتقليل الإشادة العلنية في الاجتماعات، تجنبًا لتغذية الغرور.
- تربية العاملين على التجرّد: بتذكيرهم دومًا بأن كل مسؤولية هي اختبار وليست وسامًا، وأن الله مطّلع على خفايا القلوب.
- الانخراط في أعمال خفية لله: فكلما كثرت الأعمال التي لا يعلم بها أحد سوى الله، رُبِّي القلب على أن يقصد وجهه وحده، لا وجه المادحين.
- كسر الصنم الداخلي: بأن يعترف الإنسان بضعفه وحاجته لله، ويكثر من الدعاء بـ: "اللهم إني أعوذ بك من الرياء ومن أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم."