ظاهرة “تدجين الشعوب” بين حيلة الطغاة ورضوخ البغاة (2-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » ظاهرة “تدجين الشعوب” بين حيلة الطغاة ورضوخ البغاة (2-2)
Dictator

تحدثنا - بفضل الله تعالى- في الجزء الأول من هذا الموضوع عن:-

توطئة عن الموضوع.

أولا: تعريف مصطلح التدجين.

ثانيا: وسائل تدجين الشعوب وترويضها.

ثالثا: أمور يتبعها الحكام لضمان نجاح وسائل تدجين الشعوب.

وفي هذا الجزء سنتحدث - بإذن الله تعالى - عن:-

رابعا: أنواع التدجين

إن التدجين قد ينبع من داخل الإنسان نفسه نتيجة لخوفه من مغبة الاعتراض والتمرد وما سيقع عليه من ظلم أو بطش وتنكيل، فضلا عن العومل الخارجية التي يتعرض لها الإنسان وتؤثر على سلوكه وحياته بشكل عام، وبالنسبة لأنواع التدجين فهي كالآتي:

1- التدجين الأيدولوجي

إن التدجين الأيدولوجي "الديني" يعد من أقدم أنواع التدجين التي عرفتها البشرية لسرعة تأثر الإنسان بحديث رجال الدين واعتبار أن مراجعتهم شؤم والاعتراض عليهم فسق، لذلك فإن أي طاغية ظالم مستبد يحرص على أن يحيط نفسه بطغمة من رجال الدين الذين يبيعون آخرتهم بدنيا الحاكم.

إن وظيفة طغمة رجال الدين الذين يحيطون بالحاكم هي دغدغة مشاعر العامة وتعطيل حواسهم حتى يهيمون بهم في كل واد، وذلك من خلال "خطب السكر الإلهي" كما سماها الشيخ الغزالي رحمه الله.

2- التدجين القهري

إن التدجين القهري يتم من خلال قيام النظام الحاكم بسن قوانين تعسفية لا تتمشى مع شرع ولا عرف ولكن هدفها تكميم الأفواه ومصادرة الحريات وسلب إرادة المواطنين، كل ذلك يتم باستخدام "العصا الغليظة" التي ترعب المواطنين ولا تجعل أحدهم يفكر في شق عصا الطاعة.

3- التدجين الفكري

إن التدجين الفكري يكون بـ (التحايل على النصوص) دينية كانت أو قانونية أو غيرهما من أجل إقناع العامة بها، ومن أجل أن يدور العامة في الفلك الذي يرسمه النظام ولا يتخطاه واحد منهم قيد أنملة، كل ذلك والجميع يعتقدون أنهم يسيرون في المسار الصحيح وأنه مهما بدت الأجواء حالكة فإن النور موجود في نهاية النفق! وهكذا يدور الجميع في حلقة مُفرغة "طوعا أو كرها" كالثور الذي لا حيلة إلا أن يسير لكي تدور الساقية، وكالحمار الذي يدور في الرحى وهو يوقن أنه لن يأكل من كدِّه. ومن وسائل التدجين الفكري إحياء النعرات القومية والعِرقية والطائفية التي تجعل الأمة تتناحر فيما بينها وتتآكل من داخلها فلا تقوم لها قائمة.

4- التدجين التربوي

إن أسلوب المناهج الدراسية وأسلوب الامتحانات تكون نمطية للحد الذي يجعل الطالب أسير نصوص ثابتة وجامدة عليه حفظها واسترجاعها كما هي، وهذا يقضي على التفكير ويقتل الإبداع، ويجعل الطالب يخشى من ممارسة التحليل والاستنباط خشية الرسوب أو فقدان الدرجات، كل ذلك يتسبب في خلق جيل "مُقوْلب" يسير في مسار لا يتخطاه.

5- التدجين الاجتماعي

إن التدجين الاجتماعي يكون باستخدام العنف في التربية سواء من الآباء أو من المعلمين مما يجبر الأبناء على الانقياد لكل ما يُقال لهم وما يُملى عليهم دون إعمال عقل؛ تجنبا للعقاب، وهذا يؤدي إلى غرس الروح الانهزامية ويقتل الروح الرافضة للظلم، فيشب الجيل على هذه الصفات حتى المشيب.

6- التدجين الأمني

إن من وسائل الأنظمة لتدجين العامة القيام بإطلاق العنان للمجرمين والخارجين عن القانون، وفي المقابل سن القوانين القاسية التي تردع كل من يفكر في التمرد أو الخروج عن المسار الذي رسمه له النظام. إن ذلك يؤدي إلى بث الذعر في نفوس المواطنين لعدم قدرتهم على المقاومة، ويجعلهم أمام أمرين كلاهما مر، إما الهجرة لمكان يشعرون فيه بآدميتهم وإما الرضا بالواقع والاستسلام للذل.

7- التدجين النفسي

وفي هذا النوع من التدجين يفقد الفرد وبالتالي المجتمع الثقة في قدرته على إحداث أي تغيير للوضع السائد، وهذه الهزيمة النفسية تنتج عنها أنواع كثيرة من الفوبيا والرهاب والعُقد النفسية التي تجعل الجميع يشعرون بالحقارة والدونية وعدم الأهلية للتغيير للأفضل، ومن ثم الانبطاح والاستسلام.

8- التدجين الاقتصادي

إن التدجين الاقتصادي يتم من خلال تعمد النظام إثارة الفوضى وتصدير المشكلات والأزمات حتى يشعر الشعب بأنه السبب فيما يحدث من مشكلات وأزمات وأنه عالة على النظام الحاكم ولا يستحق ما يتقاضاه من أجور ومرتبات مهما كانت ضئيلة.

وهذا النوع من التدجين تمارسه الدول الكبرى بقصد الهيمنة على غيرها من الدول لتجعلها دولا فقيرة ومستهلكة على الدوام لتضمن ولائها، ولتضمن سوقا رائجا لكل ما تنتجه في شتى المجالات.

إن كل ما سبق من أنواع التدجين وأساليبه يؤدي إلى الوقوع في براثن الشيطان وحباله فلا ترى الفرد إلا مُتبعا لخطوات الشيطان؛ غارقا في الفسق والمجون والشهوات؛ مخالفا لأمر الله تعالى الذي قال فيه: } أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {60} وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ {61} وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ {62}{ (يس: 63:60)، فإذا كان الحال كذلك فلا تنتظر من هؤلاء إصلاحا ولا تعوِّل عليهم نفعا، كل ذلك والجميع في سكرة لا يريدون أن يفيقوا منها أبدا؛ بل يحاربون من يحاول إفاقتهم، ويظل الحال هكذا إلى أن ينفذ الله تعالى في الجميع قدره وسنته.

إن العجب العجاب أننا نرى كل هؤلاء الذين تم تدجينهم وترويضهم واستئناسهم يمارسون نفس الدور على من تحتهم

فالزوج يمارس التدجين ضد زوجته وأولاده بالقهر والمن والأذى.

والمرأة تمارس التدجين ضد زوجها بالنشوز ونبذ القوامة والتعالي عليها بجمالها أو بمالها وحسبها ونسبها.

والأولاد يأتيهم الوقت الذي يرفضون فيه التدجين فيلجؤون إلى التمرد والعصيان الذي يجرهم إلى الفساد لكونهم نشؤوا في بيئة فاسدة.

وتدب هذه الروح في أوصال المجتمع فترى صاحب العمل يمارس التدجين على مرؤوسيه، ورجل الدين يتعالى على أتباعه ومريديه ... الخ.

خامسا: أقوال بعض المفكرين والأدباء عن ظاهرة تدجين الشعوب وترويضها

من نافلة القول وإتماما لكل ما سبق ذكره نستعرض أقوال بعض المفكرين والأدباء عن ظاهرة تدجين الشعوب وترويضها

من أقوال "الدكتور علي شريعتي" الذي عاش مناهضا للقهر والاستبداد فكانت النتيجة هي اغتياله في شقته في لندن عام 1977م.

قال رحمه الله "الأفكار مشلولة، العقول مُخدرة، الأوفياء يعيشون الوحدة، الشباب يائس ومنحرف، كسروا الأقلام، كمموا الأفواه، هذه سمات هذا العصر".

وقال: "لا شك أن الجيل الذي يحتقر نفسه بنفسه يكون حقيرا حقا، فسياسة الاستعباد والاسترقاق، تقتضي التحقير أولا،....... للذي يراد استرقاقه، حتى يظن أنه من طبقة دنيا وأسرة مُنحطّة، ثم يتقبل الذل بكامل الرَّحب، ويلجأ للعبودية والاسترقاق".

من أقوال "الشهيد سيد قطب" الذي أبى الانقياد لبطش وجبروت عبد الناصر ورفض أن يتم تدجينه، فكانت النتيجة هي أن قام عبد الناصر بإعدامه عام 1966م.

قال رحمه الله: "العبيد هم الذين يقفون بباب السادة يتزاحمون وهم يرون بأعينهم كيف يركل السيد عبيده الأذلاء في الداخل بكعب حذائه، كيف يطردهم من خدمته دون إنذار أو إخطار، كيف يطأطئون فيحنون هامتهم له فيصفع أقفيتهم باستهانة ويأمر بإلقائهم خارج الأعتاب ولكنهم بعد هذا كله يظلون يتزاحمون على الأبواب يعرضون خدماتهم بدل الخدم المطرودين وكلما أمعن السيد في احتقارهم زادوا تهافتا كالذباب".

"العبيد هم الذين اذا أُعتقوا وأُطلقوا حسدوا الأرقاء الباقين في الحظيرة لا الأحرار المطلقي السراح؛ لأن الحرية تخيفهم والكرامة تثقل كواهلهم؛ لأن حزام الخدمة في أوساطهم هو شارة الفخر التي يعتزون بها؛ ولأن القصب الذي يرصع ثياب الخدمة هو أبهى الأزياء التي يتعشقونها".

"العبيد يتسابقون إلى ابتكار وسائل التنكيل بالأحرار تسابقهم إلى إرضاء السادة ولكن السادة مع هذا يملونهم فيطردونهم من الخدمة لأن مزاج السادة يدركه السأم من تكرار اللعبة فيغيرون اللاعبين ويستبدلون بهم بعض الواقفين على الأبواب ومع ذلك كله فالمستقبل للأحرار لا للعبيد ولا للسادة الذين يتمرغ على أقدامهم العبيد، المستقبل للأحرار لأن كفاح الإنسانية كلها في سبيل الحرية لن يضيع، ولأن حظائر الرقيق التي هدمت لن تقام، ولأن سلاسل الرقيق التي حُطمت لن يُعاد سبكها من جديد".

من أقوال "جمال الدين الأفغاني" الذي توفي عام 1897م في الأستانة بتركيا وأثيرت حول وفاته شبهة جنائية بسبب آراءه وتوجهاته.

قال رحمه الله: "لن تنبعث شرارة الإصلاح الحقيقي في وسط هذا الظلام الحالك إلا إذا تعلمت الشعوب العربية وعرفت حقوقها، ودافعت عنها بالثورة القائمة على العلم والعقل".

وقال: "أمة تطعن حاكمها سرا وتعبده جهرا لا تستحق الحياة".

وعندما قيل له: "إن المستعمرين ذئاب، قال: "لو لم يجدوكم نعاجا لما كانوا ذئابا".

من أقوال "عبد الرحمن الكواكبي" (أحد رواد النهضة ومفكريها في القرن الـ 19) ولد في سوريا وتوفي في القاهرة عام 1902م متأثرا بسُم دُسَّ له في فنجان القهوة.

قال رحمه الله: "الإنسان في ظل الاستبداد لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه".

أما بالنسبة لي فأقول: "إن كل جيل لابد وأن تكون فيه فئة لا ترضى عن عبادة العجل، والثوم والبصل أفضل عندها من المن والسلوى!!".

أخيرا أقول:

بعد إتمام عملية التدجين تكون الصورة النهائية للمجتمع عبارة عن:-

حاكم ظالم مُستبد.

بطانة سوء تشكل الحصن المنيع والجدار الواقي للحاكم لضمان استمراره في الحكم.

أتباع ظلمة نفعيون ووصوليون ومتملقون ينفذون ما يرسمه لهم فرعونهم الأكبر.

همج رعاع ورويبضة مستسلمون للظلم بل ويضحون بكل شيء من أجل استجداء من فوقهم حتى ولو كلفهم ذلك حريتهم وأموالهم وأعراضهم.

فئة تستنكر الظلم في نفسها ولا تبوح بذلك خشية البطش والتنكيل.

فئة تتهرب من الواقع وتنسحب من المشهد بدعوى التدين السلبي البارد أو الانشغال بتحصيل العلم، وكلاهما قد مقته الشرع وحذر منه وقال فيهم: }وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ{ (الحديد: من الآية 27).

فئة قليلة تواجه الظلم وتفضح الظالمين وتوقظ ضمائر العامة، وهؤلاء من وصفهم فرعون بقوله: }إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ {54} وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ {55}{ (الشعراء: 54-55)، وقال عنهم الله تعالى: }وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ {5}{ (القصص: 5).

إن المجتمع والحال كذلك تجد تركيبته كالبركان الثائر الذي ينذر بالدمار والخراب، وكالبحر الهائج مما فيه من اضطرابات تزكي الفرقة والتناحر فتقتل الإبداع وتعرقل التقدم، وكل ذلك بغرض تقوية أركان عرش كل ظالم مستبد يبني مجده على أنات وتأوهات شعبه، وضياع مُقدرات وطنه.

وأقول

إن الخلاص من هذا الوضع المزري لا يكون إلا بالعودة إلى نهج الله تعالى وسيرة السلف الصالح، وبوجود حاضنة شعبية واعية ونخبة مخلصة تضمن حماية الفئة الصالحة المصلحة لتستطيع أن تنتشل المجتمع من وحل الظلم والاستبداد إلى واحة العدل والحرية، ولتستطيع الفئة المصلحة أن تنتشل المجتمع حتى لا يتماهي مع جلاده ولا يُدمن سوطه.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

إذا طال حلم الله… فانتظروا الغضبة الكبرى!

في حياتنا البشرية، إذا ما تعرّض أحدنا لضغط كبير، فإن تنفيسه عن هذا الغضب في …