عادة ما تثير الحوادث التي تتعلق بانتحار الفتيات أو قتلهن كضحايا لقصص حب أو علاقات غير الشرعية الجدل. ورغم وجود الكثير من القضايا والملفات التي يتوجب فتحها ونقاشها أسريًا ومجتمعيًا فيما يتعلق بتلك الحوادث، فإننا في هذه المقالة سنكتفي بإسقاط الضوء على الجانب التربوي الأبوي لهذا الأمر. فأكثر ما يثير الحَيْرة في تلك الحوادث جميعها هو جهل معظم أسر هؤلاء الضحايا ـــ ونخص هنا الأب بالذكر لما سيلي ذكره من أسباب ـــ بما جرى مع بناتهن، وسبب قتلهن أو انتحارهن! فلم لا يكون لكثير من الآباء علم بما يجري في حياة بناتهن العاطفية؟ ولماذا هذا الحاجز الذي عادة ما يُبنى بين الأب وابنته ما بلغتِ الفتاة سن الرشد؟
لماذا يُلقَى باللوم على الأب بالذات في تلك الأحوال، وما هو الدور التربوي الذي على الأب أن يلعبه في حياة ابنته بشكل عام والعاطفية بشكل خاص؟
إن الأب هو القيّم على الأسرة وهو راعيها، وهم من تقع عليه مسؤولية التصرف ودعم ابنته وحمايتها. أما الواقع فيتمثل في اقتصار دور الأب على كونه معيل الأسرة وينتهي الأمر عند هذا الحد. إلا أن دور الأب هو أعمق وأهم وأعظم من هذا بكثير سواء في حياة الابن أو الابنة غير أننا نهدف في هذا المقال إلى التركيز على علاقته بالابنة سيما في حياتها العاطفية. وكما يقول الكاتب والطبيب النفسي الأمر "جيمس دوبسون" James Dobson": "يعتقد معظم علماء النفس ـــ وأنا واحد منهم ـــ أن كل علاقات الفتاة الرومانسية المستقبلية سوف تتأثر إيجابًا أو سلبًا بالطريقة التي تنظر بها إلى والدها وتتعامل معه. فإذا كان مؤذيًا أو قاسيًا فسوف تقضي حياتها في محاولة استبداله. أما إذا كان حنونًا وعطوفًا، فسوف تبحث عن رجل يشبهه. وإذا كان يقدرها ويراها جميلة، فسوف تميل لرؤية نفسها هكذا. ولكنه إذا نبذها لأنها غير جميلة أو لا تستحق التقدير، فإنها ستجد صعوبة كبيرة في تقدير نفسها حين تتقدم في العمر".
أهمية توطيد الأب علاقَته بابنته:
على الأب البدء ببناء علاقة طيبة بابنته منذ صغرها بحيث تتوطد على مدار السنين وتصبح متينة وقوية. فلا يجب بحال أن تضعف تلك العلاقة عند بلوغها، بل على العكس، لا بد أن تتوطد أكثر. من الجميل أن تكون الفتاة المسلمة حيِيَّة وألا يكون التحدث في مثل تلك المواضيع سهلًا بالنسبة لها. بيد أنه من الضروري تعليمها أنه لا توجد مواضيع "ممنوعة" في حديثها مع والدها، طالما كان الحوار بأسلوب مهذب وراقي ويراعي مكانة الأب وقدره. ولابد من تنشئتها على مبدأ أن الأب هو الملاذ بعد الله تعالى إذا ما حل بها خَطب أو وقعت في مشكلة. ومن هنا لن تُصَم آذاننا وتنفطر قلوبنا عند سماعنا لقصة فتاة خدعها شاب، وهددها بنشر صورها معه، فكان أن اختارت تلك الفتاة الانتحار على أن تطلب مساعدة أبيها! أو أخرى تُقتَل لرفضها الزواج من شاب عرفته لشهور أو سنين وراسلته دون علم والدها، الذي لم يعرف عنه وعن علاقتهما إلا بعد قتل الشاب لها!
ترى ما السر وراء الحاجز الذي عادة ما يُبنى بين الأب وابنته ما بلغتِ الفتاة (جاءها المحيض)؟
إن منشأ هذا الحاجز هو جهل كثير من الآباء بدورهم التربوي الأبوي في حياة بناتهم خاصة بعد البلوغ. وهذا للدرجة التي لاحظتُ فيها أنه نادرًا ما كانت إحدى زميلات العمل أو الدراسة تتحدث عن أبيها وعلاقتها الوطيدة أو حتى الطيبة به! فهو إما غير موجود، أو هو موجود لتوجيه الأوامر والنقد والتعقيب المستمر على تصرفاتها الخاطئة.
"إن التواصل الفعال والعلاقة الوطيدة بين الوالدين والمراهقات تؤدي إلى شعور الأخيرات بمستويات أكثر انخفاضًا من القلق والاكتئاب." (مجلة علم نفس الأطفال)
مثال من قرآننا الكريم على علاقة طيبة وقوية بين الأب وابنته :
فمن المثير للعجب والرثاء في آن هو تعزية بعض الآباء جديتهم المُفْرِطة، ووضع الحواجز بينهم وبين بناتهم إلى أسباب تتعلق بالإسلام، وإسلامنا بريء منها براءة الذئب من دم بن يعقوب. فمثلًا، نطلع في القرآن الكريم على مثال رائع ومميز يحمل ـــــ على قصره وبساطته ـــــ معنى عظيمًا وعميقًا في الأبوة. وتتمحور القصة في الآية الكريمة: }قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ{ (القصص:26). فتطلب ابنة نبي الله شعيب عليه السلام أن يستأجر موسى عليه السلام ليعمل عنده. فيكون رد أبيها شعيب عليه السلام أن يوافق على اقتراحها، ويستأجر موسى عليه السلام ويزوجه بابنته صاحبة الاقتراح!
ونلاحظ هنا عدة لفتات لطيفة في تلك الآية الكريمة:
أولًا: عدم تحرج ابنة شعيب عليه السلام من وصف بل ومدح الشاب الذي نال إعجابها لأبيها. فقالت واصفة موسى عليه السلام: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.
ثانيًا: ذكاء الأب ورقته حيث لم يحرج ابنته بسؤالها عن مشاعرها بشكل مباشر،.....ولبى رغبتها على النحو الذي أرادته.
ثالثًا: لم ينهر شعيب عليه السلام ابنته حين خاطبته بصيغة الأمر في قولها "استأجره"، ولم ينهها عن إبداء أي اقتراحات تتعلق بعمله وتوظيف العاملين لديه. بل كان فطِنًا كفاية ليدرك ذكاء ابنته في فهم معادن الناس، ورقيقًا كفاية باحتواء مشاعرها العاطفية تجاه الشاب. وفهم بفطنة الأب والرجل أن ابنته قد أعجبت به، فوافقها على اقتراحها ولبَّى رغبتها. والدرس الذي يتعلمه الآباء من قصة شعيب عليه السلام هو أهمية أن يبدي الأب رأيه فيمن يرغب بالزواج من ابنته، ولكن عليه كذلك أن يحرص على أخذ مشورتها، خاصة وأن أمر الزواج يعنيها بالدرجة الأولى.
كيف يمكن للأب توطيد علاقته بابنته؟
التقليل من الانتقاد فكثرة نقد الأبناء بشكل عام يعتبر من الأسباب الرئيسية لصنع الحواجز بينهم وبين الأبوين.
حين تشعر بالإحراج عند حديثك مع ابنتك في أي موضوع، تذكر الواقعة اللطيفة التي جاءت فيه امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألته "عن غسْلِها منَ المَحيضِ فأخبرَها كيفَ تغتسل"(صحيح النسائي). ولما طلبت تفاصيل أكثر، تدخلت السيدة عائشة رضي الله عنها وشرحت لها. والشاهد هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن سؤالها ولم يصرفها. كما لم يستنكر عليها سؤالها، ولم ينه النساء عن سؤاله في تيك الأمور. فما بالك إذا كان حديثك مع ابنتك يتعلق بحياتها الشخصية والعاطفية! فلا حرج عليك بإذن الله.
إن دور الأب في حياة ابنته عظيم ولا غناء عنه. وإذا قام بهذا الدور على أحسن وجه فله أجر عظيم كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه: "من كان له ثلاثُ بناتٍ فصبر عليهن وأطعمهنَّ وسقاهنَّ وكساهُنَّ مِن جِدَتِه كنَّ له حجابًا من النَّارِ يومَ القيامةِ" (صحيح ابن ماجة). فاحرص أيها الأب أن تترك في حياة ابنتك أثرًا حسنًا.