لقمةُ جائعٍ وبناءُ جامع

الرئيسية » بأقلامكم » لقمةُ جائعٍ وبناءُ جامع
muslim-prayer

أحيانًا، يقوم أحد الملحدين بنقد الإسلام وتوجيه الطعن فيه، لتكتشف أنه بعمله هذا – ومن حيث لا يقصد – قد فتح نافذةً على جانبٍ مشرقٍ من هذا الدين الذي سعى لتجريحه.

من ذلك قول بعضهم في معرض ذمّ التدين واهتمام الناس بالدين:

"لقمةٌ في بطن جائعٍ خيرٌ من بناءِ ألفِ جامع."

"يُصرفون الملايين على تزيين المساجد، ولو صرفوها على الفقراء لكان أفضل."

"اتركوا الطواف حول الكعبة، وطوفوا حول بيوت الفقراء، فالله هناك."

"الأيدي التي تساعد الناس خيرٌ من الشفاه التي تُصلّي."

"يذهبون للعمرة، فيولّون وجوههم نحو الكعبة ويديرون ظهورهم للجياع."

لماذا المساجد بالذات؟
ولماذا يُقابَل بناءُ الجامع بإطعام الجائع؟

وماذا عن البذخ والإسراف عند أهل الفنّ والطرب، وأهل السياسة، والأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال، وأهل الرياضة والفنون، ومشاهير السوشيال ميديا... حيث الحفلاتُ الباذخة، والقصورُ الفارهة، والسياراتُ الحديثة، والملابسُ الثمينة، ومبارياتُ الكرة، والمسابقاتُ التي يُصرف فيها المال بإسرافٍ ظاهر؟ وماذا عن القصور الرئاسية، والمباني التي يتطاولون في بنائها؟

لقد لبستْ إحدى المغنيات ثوبًا كاملًا من الماس، وقام فنانٌ آخر بحرق الدولارات في مقطعٍ صوّره بنفسه، وقام أحد المتنفّذين بإهداء لاعب تنس مضربًا من الذهب الخالص، وكان لأحدهم سيارةٌ مطعّمة بالذهب تُقدّر بعشرات الملايين، وبنى أحد الزعماء آلاف التماثيل لشخصه المعظَّم، وصرف آخر أموال الدولة على بناء المزيد من القصور الرئاسية، كما صرف أحد الأثرياء أموالًا طائلة على حفل زفاف لابنته.

لماذا لم يلتفت هذا الملحد إلى المغني والمطرب والسياسي وسائر الذين بالغوا في السَّرَف، ثم نظر فقط إلى بناء المساجد؟

مثل هذا التعامي يدلّ على عقيدة صاحبه، ويدلّ على نمط تفكيره.

ثم انظر إلى المغالطة!

هو يُقابل اليد التي تساعد الفقير بالشفاه التي تُصلّي، وفي هذا تدليسٌ وتلبيس؛ لقد كان الصواب أن يُقابل اليد التي تُقدّم المساعدة باليد التي تمنعها، لأن الشفاه التي تُصلّي قد تنهض لعون الفقير.

ولماذا يُطلب من الناس ترك الطواف حول الكعبة ليذهبوا نحو الفقراء؟ هل سنطلب منهم أيضًا ترك السفر، والسياحة، والرياضة؟

ولماذا لم يُطلب من الأغنياء ترك منتجعاتهم وفنادقهم؟

أصحاب المقولات السابقة كشفوا عن عَوار أنفسهم؛ فهم ليسوا دعاةَ إحسانٍ للفقير، بل دعاةُ مناهضةٍ للدين.

ومضةٌ مشرقة
وأما الجانب المشرق الذي قصدناه، فهو أن الفقير عندما يحتاج المعونة، فأول ما يخطر بباله: الذهاب إلى المسجد، لأنه سيجد أهل الخير هناك.

من المسجد يتخرج المحسنون، والساعون على اليتيم والأرملة والفقير والمسكين وذوي الحاجة. وعمّارُ المساجد هم حَمَلةُ لواء رفع الظلم والأسى عن الناس، وهم اليدُ الحانية على إخوانهم في الدين والوطن والإنسانية...

وعند من تتصوّر الخير أكثر؟
عند من يذهب للحج والعمرة يطلب عفو ربه، ويعلم أن من كفّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب؟
أم عند الذي لا دين يأبه له، ولا يحسب حساب اليوم الآخر، بل يقضي حياته مترفًا في المعازف والملاهي، والسهر، والسفر في غير ما طاعة؟

بجوار دور العبادة تنشأ جمعياتُ الأعمال الخيرية، ويقوم عليها عادةً عمّارُ المساجد، وهذا ملموسٌ مشاهدٌ بوضوح على امتداد وطننا العربي والإسلامي.

وأذكر أن أحد رواد المساجد – وكان جارًا لي ويحمل درجة الدكتوراه في الشريعة – رجع من الغربة بثروةٍ جيدة، فاشترى أرضًا وبنى عليها من ماله الخاص دارًا للأيتام، وظل يمدها بالمال والعون، وكان ينثر الخير حيثما حلّ، ما حدا بأهل الحي أن كافؤوه وانتخبوه نائبًا في البرلمان قبل وفاته.

ولو أطلّ ذاك الملحد على هذا المحسن، لقال: متخلف، رجعي، شهواني، لا يفقه الحياة، ولا يهتم بأمر الفقراء... إلخ.

إن أعمال البر مدفوعة بدافع الدين في الدرجة الأولى، والذين يطالبون بتنحية الدين لأجل الاهتمام بالفقراء، إنما يطلقون النار على أرجلهم – هذا إذا ما قدّمنا حسن الظنّ في دوافعهم.

وأنا لم أرَ في حياتي ملحدًا فتح جمعيةً خيرية وسعى في حوائج الناس.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
مهندس أردني مقيم بين الدوحة وعمان، روائي وكاتب مهتم بالقضايا العامة، الإسلامية والاجتماعية والتربوية. صدر له: - حاجز الزمن، وهي قصة من الخيال العلمي - الضوء المنحني، وهي قصة من الخيال العلمي - المهاجر، قصة لاجئ في النكبة - صحبة البر، وهو كتاب في أدب الرحلات - الخبز الأحمر في تذكرة أحوال طوفان الأقصى

شاهد أيضاً

بين ابن سيرين وفرويد: حين يصبح الحلم بوابة للعلم… أو للوهم

إذا رغبنا في المقارنة بين كتاب تفسير الأحلام لعالم النفس النمساوي المثير للجدل "سيغموند فرويد"، …