إذا رغبنا في المقارنة بين كتاب تفسير الأحلام لعالم النفس النمساوي المثير للجدل "سيغموند فرويد"، وبين الكتاب الموسوم بنفس العنوان والمنسوب للعالم ابن سيرين (والذي شكّك كثيرون في نسبته إليه)، فسوف نلحظ الفارق الكبير في المنهج بينهما.
وقبل الشروع في بيان طريقة كتاب ابن سيرين، نُلقي نظرة على رأي الشرع في مسائل الأحلام والرؤى، والتي يمكن تلخيصها بإيجاز غير مُخِلّ كما يلي:
رأي الشرع
ورد تأويل الأحلام في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام، وقصة إبراهيم عليه السلام في حادثة ذبح ولده، وفي رؤيا النبي ﷺ لدخول المسجد الحرام. ويُستفاد من هذه المواضع أن في بعض الرؤى دلالةً على أن أمرًا ما سوف يقع في المستقبل.
أن الأحلام أنواع ثلاثة: رؤيا من الله، وحلم من الشيطان، وحديث نفس، والأخير أكثرها. والرؤيا التي يتحقّق تأويلها اختصّ الله بها الأنبياء وبعض الصادقين؛ فقد كانت رؤيا النبي جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، فلا يكاد يرى الرؤيا إلا جاءت كفلق الصبح. كما اختص الله بها بعضًا من عباده الصالحين الذين كانت مزيتهم الصدق، كما قال النبي ﷺ: "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا" (متفق عليه).
في التوجيه النبوي: "من رأى منكم ما يكره فليتعوذ بالله من الشيطان، ولينفث عن يساره ثلاثًا، فإنها لن تضره"، وأما الرؤيا السارّة فله أن يقصّها على وَادٍّ أو ذي رأي، كما جاء في حديث أبي داود.
أوصى النبي ﷺ الأمة بجملة من الوصايا تُؤدَّى قبل النوم، تبدأ بالوضوء، ثم نفض السرير وترتيبه لإزالة ما فيه من الهوام والأوساخ، ثم ذكر الله تعالى، وقراءة آية الكرسي وأجزاء من القرآن، والاستغفار والتسبيح والدعاء، ثم محاسبة النفس على ما فات في النهار، والتوبة، والعزم على التجويد والاستدراك في اليوم التالي، ثم الاضطجاع على الشق الأيمن والدعاء بالمأثور: "باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها..." الحديث.
ولا شك أن هذه الوصايا الرائعة هي أحسن علاج للقلق والتوتر والخوف من المستقبل، وهي غُسل لما مضى من الهموم، وتخليص للعقل من الطاقة السلبية، وأحسن استعداد لمقادير اليوم التالي. وهي تقويم للنفس، وحثّ لها على عدم الإيذاء –إن كان من أهل الطَّول– أو على تحمُّل اضطرابات الحياة – لمن قلّت حيلته. وأثر هذه الأذكار حاسم في دفع المزعجات، وجلب الهدوء والطمأنينة، كما قال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". وبخاصة لمن تلاها بتدبر وخشوع وتأنٍّ، وأخذها بحقها.
إن مجموع ما ورد من الآثار لا يجتمع منه أي دليل يُعطي القدرة لبشرٍ على تفسير الأحلام، لا من قريب ولا من بعيد. وإن جميع الصحابة –رضي الله عنهم– لم ينشغلوا بتفسير الأحلام، ولم يتخذها أحد منهم حرفة له، ولا زعم لنفسه أي حَول فيها.
كتاب ابن سيرين ومَن نسج على منواله
يمكن تلخيص منهج هذا الكتاب بما يلي:
أن الأحلام تدل على أن حدثًا ما سوف يقع (دلالة على المستقبل).
أن الرموز والمشاهدات التي يراها النائم لها معنى وتفسير محدد (شيفرة أو طلاسم يمكن فكّها).
مثلًا:
من رأى صابونًا فسيتحصل له ثروة وتزول همومه.
من رأى دجاجة فسوف يتزوج امرأة جميلة حمقاء.
من رأى الفلفل فسيشرب السم، ويقع في الهموم.
وهذه منقولات بالحرف من كتاب ابن سيرين دون تحريف لمعناها.
والذي أراه أن من رضي لنفسه أن يُفسّر الأحلام بهذه الطريقة فقد خلع عن نفسه رداء العلم ورداء الدين معًا.
أولًا: لأن التفسير بهذه الكيفية نوع من الخرص، والقول بلا دليل ولا أثارة من علم، ولا شك أن هذا منهيّ عنه بشدة، فهو انتفاء لرداء العلم، كما في قوله تعالى: "قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا".
ثانيًا: أن الجزم بوقوع الأحداث ادّعاءٌ لمعرفة الغيب، وهذا نقض للعقيدة والإيمان بالله، وهو في النهي والتحريم أغلظ وأشد. فهو خلع لرداء الدين، لأنه مما اختص الله تعالى بعلمه، كما في قوله: "قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله". وقد نفى أنبياء الله الكرام عن أنفسهم معرفة الغيب، وأكّدوا على ذلك مرارًا، كما في قوله تعالى: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء".
وإني لأعجب أشد العجب من مواقع علمية رصينة تُفتي الناس بجواز الخوض في تفسير الأحلام بحجّة أن أصل الأمر وارد في الشرع، ولكنها تقصره على "العارفين".
وهل مجرد ورود الأصل كافٍ؟
ومن هم "العارفون"؟
إنهم بهذا قد فتحوا الباب للدجالين والمشعوذين!
فرويد
أما كتاب فرويد فهو الطامّة الكبرى، ويعجب المرء كيف جمع فرويد بين البحث العلمي والطبي والنفسي الجاد الذي استغرق عمرًا، ثم خرج بنتائج تنافي العلم، بل تعاكسه، وله فيها مقاصد هدامة تخريبية. وهو إما انحراف واعتلال في النفسية، أو إرادة مقصودة لتقويض القيم والأخلاق. ومن يستبعد هذه الفكرة الأخيرة فهو ساذج أو متعامٍ.
والغريب أن فرويد ينتهي إلى ما وصل إليه أهل الدجل، وهو أن الأحلام رموز وطلاسم ينبغي فكّها وتفسيرها على منهج تخاريف الأقدمين. لكنها عنده تدور حول معنى واحد: الجنس.
فمثلًا:
الشنق يعني عنده انتصاب العضو الذكري.
صعود السلم يعني الجماع.
السباحة تشير إلى الاستمناء.
الذهب له علاقة بالغائط والبراز.
منزلان متجاوران إشارة إلى فرج المرأة.
أي عُوار هذا؟ وأي انحطاط؟ بل أي خبيئة خبيثة جاء بها هذا الرجل؟
ومن يقف وراءه؟ ومن يروّج له؟
لقد صرّح بأنه لا بد من إطلاق الحريات الجنسية بدل كبتها، وفسّر معظم الأمراض العصابية بالكبت الجنسي.
ويقول إن مرحلة الطفولة التي كان يتعرى فيها الوليد هي "الفردوس المفقود" الذي يطمح كل واحد أن يعود إليه، حتى يتعرى دونما خجل.
ويقول: من شاهد في أحلامه موت قريب، فهو في الحقيقة يتمنى موته. ولأن فرويد – وهو رجل حاد الذكاء بلا شك – يعلم حجم الاعتراض المتوقع، يستدرك بقوله: "ربما لا يتمنى موته الآن، ولكن لا شك أنه فعلها مرة".
هل تراجع فرويد؟ لا.
فقط أراد إيصال فكرة هدامة، وتم له ما أراد، حتى لو تراجع عن ذيلها.
وإكمالًا لهذه الفكرة، زعم فرويد أن الابن يتمنى وفاة والده لأنه ينافسه على حب الأم، وأن البنت تتمنى وفاة أمها التي تنافسها على قلب الأب (عقدة أوديب، وعقدة أليكترا).
ثم يردّد فرويد: "ربما تكون هذه فكرة شنعاء، لكنها الحقيقة"، ويدلّل عليها بشواهد.
والقارئ ربما لا يلحظ أن فرويد عمّم فكرةً ربما خطرت يومًا لبعض الناس.
إن السير وراء فرويد كارثة...
يقول عن الأطفال: إن أنانيتهم مطلقة، كل ما يريدونه هو تلبية حاجاتهم، ولو على حساب سائر البشر كبارًا وصغارًا. ولم يُعطِ الصورة المقابلة: طفلٌ محبٌّ لأقرانه، يبذل لهم ألعابه.
هذه انتقائية غير بريئة من رجلٍ معروفٍ بحدّة الذكاء، وسعة المعرفة، وطول التجربة، وآراؤه في مجملها ترسم صورة لإنسان منحط الغرائز، اختصرها بنفسه في: غرائز الموت والحياة.