اشتباك الهيمنة والضمائر: الحالة الذهنية الإسرائيلية بعد غزة

الرئيسية » حصاد الفكر » اشتباك الهيمنة والضمائر: الحالة الذهنية الإسرائيلية بعد غزة
هل هزيمة اليهود ونهاية إسرائيل علامة من علامات القيامة؟! راغب طاهر

بين فوهة البندقية وصدع الروح

منذ العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، برزت مجددًا مفارقة لا تهدأ في داخل المجتمع الإسرائيلي: التزامه الظاهري بسياسة الردع العسكري، مقابل ما يمكن تسميته "تململ الضمير الجماعي".

ليست هذه المفارقة وليدة اللحظة، لكنها هذه المرة أشد فتكًا، لأن أصداء الحرب لم تتوقف عند حدود الأنقاض في غزة، بل تسربت إلى الداخل الإسرائيلي نفسه، ككابوس أخلاقي لا يمكن قمعه بالإعلام ولا تخديره بالدعاية.

يبدو أن إسرائيل، في سعيها لتثبيت هيمنتها عبر القوة الغاشمة، تصطدم بجدار داخلي يتصدع من الأسئلة لا من القنابل: من نكون حين نقصف البيوت؟ ماذا يعني "أمننا" حين يتأسس على موت الآخر؟ هل يمكن لدولة أن تنتصر ميدانيًا وتنهزم أخلاقيًا في اللحظة ذاتها؟

قوة بلا معنى: حين تتحول الهيمنة إلى خواء أخلاقي

في الحرب الأخيرة، بدا واضحًا أن إسرائيل لم تعد تخوض معاركها فقط ضد "عدو خارجي" بل أيضًا ضد "معنى داخلي" متآكل.. كثافة التدمير، واستهداف المدنيين، ومشاهد المجازر التي تناقلها العالم، لم تعد أحداثًا قابلة للطمس في الأذهان الإسرائيلية. ولأول مرة منذ عقود، بدأت تتسلل إلى الحيز العام أصوات -وإن خافتة- تتساءل عن معاني "السيطرة" و"الردع" و"أخلاقيات الحرب".

تتجلى أزمة إسرائيل الراهنة في كونها باتت تسعى إلى حماية وهم التفوق، بينما تنهار سرديتها الأخلاقية من الداخل. الهيمنة، حين تمارس بلا أفق، تصبح عبئًا روحيًا، وتتحول من منطق سيطرة إلى مظهر هش يُفضح مع كل صرخة طفل تحت الركام.

السردية تنهار: غزة كمرآة قاتلة

ما لم تدركه المؤسسة السياسية الإسرائيلية هو أن غزة، وإن كانت محاصرة جغرافيًا، قد تحولت إلى مرآة ثقيلة تفرض على الإسرائيليين مواجهة ذواتهم؛ وكلما اشتدت آلة القتل، اتسع الشرخ في الرواية التي تروج للجيش الأكثر أخلاقية في العالم.

صورة جندي إسرائيلي يحمل قاذفة في زقاق ضيق، وخلفه جثة لامرأة أو رضيع، لم تعد مشهدًا عابرًا في وعي الإسرائيلي العادي؛ وسائل التواصل الاجتماعي كسرت الاحتكار السردي.. بات الصراع اليوم بين صورة الدبابة وصورة الجثة، بين لحظة الزهو العسكري ولحظة الخزي الأخلاقي.

التشقق النفسي: جبهات داخلية تغلي

في الداخل الإسرائيلي، ترتفع أصوات من فئات أكاديمية ونفسية تشير إلى ارتفاع معدلات القلق، والاكتئاب، والمشاعر الأخلاقية المربكة في صفوف الجنود والمجتمع.. هؤلاء لم يعودوا واثقين مما يدافعون عنه. الكوابيس لا تأتي من صواريخ المقاومة، بل من مشاهد البيوت المنهارة التي شاهدوها أثناء تنفيذ "المهمات".

الجندي العائد من غزة -كما تروي شهادات متعددة- لا يعود كما ذهب! ليس فقط لأن الحرب تترك آثارها، بل لأن ما يُطلب منه تنفيذه لم يعد ينسجم حتى مع الحد الأدنى من القيم، التي يدعي المجتمع الإسرائيلي الالتزام بها. هذا ما نسميه بـ"اشتعال الضمير المؤجل"، لحظة الانفجار النفسي والأخلاقي التي تهدّد تماسك الداخل أكثر من أي هجوم خارجيّ.

النكوص إلى العنف: حين يفشل العقل تلجأ الدولة إلى النار

بدل أن تتوقف إسرائيل لمراجعة سرديتها، اختارت الانكفاء إلى الداخل والاستماتة في تثبيت صورتها بالقوة. هذا النكوص إلى العنف هو بحد ذاته دليل انهيار.. الدولة الواثقة لا تحتاج إلى مجازر كي تثبت شرعيتها، أما الدولة التي تفقد الثقة في ذاتها، فإنها تضاعف جرعات القتل لعلها تُصمت الأصوات التي تنبع من باطنها.

الهجوم على غزة لم يكن استعراضًا للقوة فقط، بل كان أيضًا قمعًا داخليًا لرعب من الذات. ولهذا لا يمكن قراءة المشهد إلا باعتباره صراعًا نفسيًا في ذاتٍ استعمارية تحاول النجاة من مرآة غزة التي تكشف عريها الإنساني والأخلاقي.

هل تتفكك إسرائيل من داخلها؟

ما تعيشه إسرائيل اليوم ليس مجرد مأزق سياسي أو أزمة "أمنية"، بل هو اختلال في المعنى؛ فالدولة التي قامت على السردية التاريخية للنجاة والحق، تجد نفسها محاطة بالأسئلة الوجودية بعدما أصبحت غزة -لا تل أبيب- هي مركز ثقل السرد الأخلاقي في المنطقة.. والسؤال إذًا لم يعد: هل تنتصر إسرائيل عسكريًا؟ بل: هل يمكن لمجتمع أن يبقى متماسكًا وهو يغتال المعنى في كل قصف، ويصادر الضمير في كل عملية؟

إن اشتباك الهيمنة والضمائر هذا لا يمكن أن يُحسم بالدبابات، بل بتفكيك الذات الاستعمارية من الداخل، وهو ما يبدو أن إسرائيل تتهرب منه، بينما يطاردها يومًا بعد آخر.

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • مدونات الجزيرة
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

صناعة الأمل منهج الأنبياء والمرسلين وورثتهم الراسخين

إن الأمة الناهضة تحتاج إلى الأمل الواسع الفسيح، وقد أمد القرآنُ الأمة الإسلامية بهذا الشعور …