ليس من العجيب أن تُشيّد السجون الفكرية وتُنسج القيود المجتمعية باسم الدين أو العُرف أو المصلحة ممن يعادي جوهر الدين وفلسفته، ولكن التحدي الحقيقي يكمن في القدرة على بناء مفاهيم الحرية من داخل هذه القيود، وجعلها ثقافة راسخة، تُوجّه العقول وتطلق الطاقات وتصنع التغيير الجاد والمنهجي.
وحين نقترب من الحديث عن ثوابت الخطاب الإسلامي، فإننا لا نتناول مجرد مصطلحات جامدة، بل نحن أمام منظومة تعكس عمق الوعي الذي يحمله الدعاة وحملة الرسالة، وتُحدد مدى قدرتهم على الجمع بين الرسوخ في الفكرة، والمرونة في التطبيق، وبين الصدق في الانتماء، والوعي بمتغيرات الزمان والمكان.
أحد أسرار بقاء هذا الدين صالحًا لكل زمان ومكان، أنه لم يغلق أبواب الاجتهاد، بل ترك فسحة واسعة لتفصيلات الأحكام بحسب الظروف والأعراف المتبدلة، لا سيما في ميدان الدعوة إلى الله وإرساء الشريعة في واقع المجتمعات. ولذا، فإن كل دعوة تتشبث بثوابت وهمية أو تحوّل المتغيرات إلى محرمات مقدسة، سرعان ما تتهاوى وتفقد مبرر وجودها عند أول هزة واقعية أو مفصل من مفاصل التغير الاجتماعي.
ثوابت الشريعة: عمق لا سطحية
الثوابت الحقيقية هي ما أجمعت عليه الأمة بدلالة قطعية من النصوص، لا ما أُلصق بها بدافع العاطفة أو العادة. إن من يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن الرسول لم يكن حريصًا على تكبيل أتباعه بسلاسل من التفصيلات الدقيقة، بل ترك لهم باب الاجتهاد واسعًا ضمن الأصول، كما في حديث معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن، فأقره على الاجتهاد بعد الكتاب والسنة، وضرب صدره تعبيرًا عن فرحه ورضاه.
وهذا النهج استمر مع الخلفاء الراشدين، حيث لم يكثروا من التشريع، بل اقتبسوا من روح النصوص ما يكفي لبناء الواقع. فليس في منهجهم تغييرات مفرطة، ولا في خطابهم جمود مطلق، بل مرونة رشيدة أساسها التوفيق لا التوقيف.
التغيير السلمي أصل لا استثناء
إذا تأملنا نماذج التغيير التي قدمها لنا القرآن الكريم في قصص الأنبياء، نرى أن الحجة والبرهان، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كانت جميعها أدوات مركزية، حتى في أعقد لحظات المواجهة مع الكفر والطغيان. وهذا يؤكد أن التغيير السلمي ليس فقط اختيارًا ناعمًا، بل هو الأصل الذي بُني عليه المنهج الرباني.
والمثال البارز في ذلك هو دعوة الأنبياء؛ من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى محمد عليهم جميعًا السلام. رغم تأييدهم بالوحي والمعجزات، إلا أنهم خاضوا معارك التغيير بالكلمة الصادقة والدعوة الحكيمة، لا بالعنف أو الفرض. وهذا ما يحتاجه واقع المجتمعات الإسلامية اليوم: دعوة تحيي لا تقتل، وتبني لا تهدم، وتستميل لا تفرض.
ولئن سالت دماء الحسين، وابن جبير، وابن تيمية وغيرهم في معارك الدفاع عن الحق، فإنهم ما خرجوا ليفرضوا نماذجهم بالقوة، بل لأنهم تمسكوا بمنهج التغيير السلمي والدفاع عن الشريعة بالحجة والتضحية.
الشورى.. عقل الجماعة وروح القرار
من بين القيم الكبرى التي غُرست في وعي الأمة، تأتي الشورى كركيزة أصيلة لا ترف تنظيمي. فقد أمر بها القرآن صراحة: "وشاورهم في الأمر"، وأثنى على من جعلها قاعدة جماعية: "وأمرهم شورى بينهم". هذه القيمة تتجاوز الجانب السياسي إلى أن تكون سلوكًا فرديًا وجماعيًا في بناء الرأي واتخاذ القرار.
ومن الجميل أن تأتي هذه الآيات في سورة مكية، أي في مرحلة التأسيس التربوي، وهو دليل على أن الشورى قيمة تأسيسية، تُغرس في الفرد قبل أن تُمارس في الدولة. وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تؤكد ذلك، ففي بدر وأحد والخندق وسواها، نراه يستشير الصحابة، فيأخذ برأيهم حتى إن خالف رؤيته.
أما التسلط والاستئثار، فليس من الإسلام في شيء، بل هو انحراف عن خط الرسالة، وتحوّل من الشورى إلى الفردية التي لم يعرفها منهج النبوة.
الشورى ليست خيارًا تنظيميًا، بل روحٌ يسري بها القرار في جسد الجماعة
لا قداسة لأحد بعد النبوة
إن من أخطر ما تواجهه الدعوة الإسلامية في كل عصر، هو أن تتحول الاجتهادات البشرية إلى خطوط حمراء لا يجوز مناقشتها، وأن تُمنح الرموز الدعوية أو المرجعيات مكانة لا تقبل الطعن، فتتحول الدعوة إلى كيان جامد، لا يقبل التجديد ولا يعترف بالخطأ.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يبدل أحكامًا سبقت منه إذا ظهرت له الحكمة أو المصلحة، كما في أمر زيارة القبور، الذي نهاهم عنه ثم أذن فيه. فكيف يتشبث بعض الدعاة والمصلحين اليوم باجتهاداتهم وكأنها وحي لا يُمس؟
إن كل من تعامل مع مناهج الدعوة أو رجالها بمنطق القداسة، فسيجد نفسه عند أول اهتزازة في النموذج أو السلوك في ورطة كبيرة، ويبدأ الناس بالتشكيك في المبدأ حين ينهار الرمز، وهذا من أعظم المخاطر الفكرية والمنهجية.
وفي هذا السياق، نجد الإمام مالك يقول: "كلٌ يؤخذ منه ويُرد إلا صاحب هذا القبر"، ويغير الإمام الشافعي فتواه إذا تبين له خطؤها. وهذا هو الإسلام في صفائه: لا أحد فوق المحاسبة أو النقد.
الخطر الأكبر في العمل الدعوي أن تُحوّل الاجتهادات البشرية إلى نصوص مقدّسة، فيختلط الوحي بالهوى
بين المبادئ والنماذج: التمييز هو سر النجاة
تكمن الحكمة في التفرقة بين المبادئ الثابتة التي نُعبَّد بها إلى الله، وبين النماذج التاريخية التي تصلح للاستلهام لا للاستنساخ. فليس كل ما نجح في عصر يصلح بالضرورة لكل عصر. ومحاولة نسخ التاريخ كما هو ستنتج صورًا مشوهة، لا زمانها زماننا، ولا أرضها أرضنا.
والعاقل من يفهم الثوابت أولًا، ويُقيم عليها اجتهاده في الواقع ثانيًا، ليُبدع نموذجًا جديدًا فيه روح الشريعة، دون أن يتحول إلى أسير لشكليات عفا عليها الزمن.
إن طريق التغيير في الإسلام يبدأ من الوعي بالمبدأ، ثم الوعي بالواقع، ثم الاجتهاد الفاعل، لا من خلال تسميات متكلسة أو تنظيرات بعيدة عن الحياة.