المتابعة الإدارية: سر المؤسسات التي لا تنهار

الرئيسية » بصائر تربوية » المتابعة الإدارية: سر المؤسسات التي لا تنهار
evaluation

لا يمكن لأيّ عمل، مهما كان نوعه أو حجمه، أن يحقق أهدافه، أو يحافظ على استمراريته وتأثيره، دون وجود منظومة متابعة دقيقة ومتكاملة ترافقه في كل مراحله. فالمتابعة ليست ترفًا إداريًا، ولا إجراءً شكليًا يُمارس من أجل ملء التقارير أو تدوين الملاحظات، وإنما هي عنصر حيوي، لا غنى عنه، في سبيل ضمان سير العمل في اتجاهه الصحيح، ومراقبة مدى تحقق الأهداف المرجوة، وتقويم الأداء الفردي والمؤسسي على حد سواء.

ذلك أن العاملين في أي مؤسسة – على اختلاف مواقعهم ومسؤولياتهم – قد يصيبهم الفتور أحيانًا، وتضعف لديهم الدافعية لأداء المهام بنفس الوتيرة والكفاءة، ناهيك عن احتمالية تعرضهم لعوامل طارئة، أو ظروف خارجة عن إرادتهم، تستوجب التدخل الإداري والمتابعة الحثيثة لمعالجة التحديات، وسدّ الثغرات، والتأكد من استمرار العمل بسلاسة وفق الخطط المرسومة. ثم إنّ الخطأ أمرٌ بشريّ، لا ينفك عن أيّ جهد، وهو جزء من طبيعة العمل ذاته، ولهذا فإن المتابعة ليست تفتيشًا عن العيوب، بل وسيلة لفهم الواقع والتفاعل معه.

المتابعة الإدارية: وظيفة إصلاحية لا عقابية

من هذا المنطلق، فإن المتابعة الإدارية – حين تمارس بأسلوب مؤسسي واعٍ – تُعدّ ركيزة من ركائز التنظيم الداخلي، ووسيلة فعالة لتحقيق الارتقاء والتقدّم، لا وسيلةً للتهديد أو التشهير. فهي ليست مجرّد آلية لرصد الأخطاء أو تسجيل الملاحظات السلبية على الموظفين، بل هي ممارسة تستهدف ضبط الإيقاع العام للعمل، وضمان انسجامه مع الرؤية والرسالة المؤسسية.

ولا يمكن أن تؤتي المتابعة أُكلها ما لم تكن قائمة على التوازن بين المحاسبة والتوجيه، وبين النقد والتقدير، وبين التقويم والتحفيز. فهي إذًا عملية تكاملية تهدف إلى إصلاح الأداء وتحسين جودة المخرجات، وليس إلى تثبيط العاملين أو خلق أجواء من الريبة والقلق.

حين تُفهم المتابعة الإدارية على أنها بناء لا هدم، وتطوير لا تشهير، تتحول إلى بوابة للنجاح المؤسسي

ولكن، وعلى الرغم من أهمية المتابعة، إلا أن بعض الأفراد ينظرون إليها نظرة سلبية، ويشعرون بالضيق والانزعاج منها، وربما يفسّرونها على أنها تشكيك في قدراتهم، أو رغبة في تضييق الخناق عليهم. وقد يعود هذا الانطباع السلبي إلى عدة عوامل، من بينها ضعف الأداء الشخصي، أو غياب الضمير المهني، أو تجربة رقابية سابقة مارست فيها الإدارة دور "الشرطي" الذي لا يرى إلا العيوب، ويغفل عن النجاحات والإيجابيات.

وهنا تبرز أهمية الجانب التربوي في المتابعة، بحيث لا تكون وسيلة للترصّد، بل أداة بنائية تهدف إلى النمو والتطوير.

الرقابة: إطار مؤسسي واضح ومقنن

ومن الخطأ الجسيم أن تُمارَس الرقابة داخل المؤسسات دون ضوابط أو معايير واضحة، أو أن تتحوّل إلى إجراء عشوائي لا يستند إلى نظام، ولا ينطلق من رؤية شاملة. فالرقابة الناجحة هي تلك التي تُمارَس وفق آليات محددة، ومعايير دقيقة، وخطط مسبقة، تضمن تحقق الغايات المرجوة منها، وتمكّن صنّاع القرار من التفاعل السليم مع الواقع، وتصحيح المسار في حال ظهرت إخفاقات أو ثغرات.

أما الرقابة التي تقوم على المزاجية، أو على الانطباعات الشخصية، أو على التربّص بالمخالفات، فهي رقابة هدامة، تفقد وظيفتها الأساسية، وتنشر التوتر والخوف في بيئة العمل، بل قد تؤدي إلى عزوف الكفاءات وذهاب الطاقات المنتجة.

أبرز فوائد المتابعة الإدارية:

من المؤكد أن المتابعة الفاعلة تعود على المؤسسة بمجموعة من الفوائد الجوهرية، نذكر منها:

  1. ضبط الإيقاع العام للعمل: حيث تساعد المتابعة على التأكد من أن النشاطات اليومية تتم وفق السياسات العامة والمعايير المعتمدة، مما يحدّ من الفوضى والعشوائية.
  2. الحد من الأخطاء ومعالجتها مبكرًا: إذ تُسهم المتابعة المستمرة في كشف الاختلالات في بداياتها، مما يسهّل التدخل السريع ويقلل من التكاليف المترتبة على تصحيحها لاحقًا.
  3. رفع مستوى الدافعية لدى العاملين: فحين يشعر الموظف أنّ هناك من يتابع إنجازه ويقدّر جهده ويطوّره، تنمو لديه روح المسؤولية والانتماء، ويزداد التفاعل بين القاعدة والقيادة.
  4. تعزيز جودة القرار الإداري: فالمتابعة توفّر تغذية راجعة دقيقة تمكّن متخذي القرار من تعديل السياسات، وتطوير البرامج، وتحقيق نتائج أكثر واقعية.
  5. تعميم النجاحات وتوسيع أثرها: من خلال نقل التجارب الناجحة وتطويرها، بدل أن تبقى حبيسة الأفراد أو الفرق الصغيرة.
  6. تشخيص الاختلالات البنيوية: إذ تُسهم المتابعة في اكتشاف المشكلات في الهيكل التنظيمي، ومعالجة أسبابها، وتقديم حلول استراتيجية لها.

ليست الرقابة أن تراقب فقط، بل أن تعيد توجيه المسار وتمنح العاملين فرصة للتطور والارتقاء

المؤسسات الدعوية والخلل في ثقافة التقييم

ومن المؤسف أن بعض المؤسسات ذات الطابع الدعوي والتربوي، لا تولي موضوع المتابعة والتقييم الأهمية الكافية، فتغيب الرقابة المؤسسية، ويحلّ محلها الاجتهاد الفردي، ما يؤدي إلى تراكم الأخطاء، وترسيخ النمطية، وانخفاض مستوى الانتماء المؤسسي، بل وتحوّل المؤسسة إلى مشروع شخصي، تنفر منه الكفاءات، وتضيع بسببه الطاقات.

وهو ما يناقض تمامًا طبيعة الرسالة التي وُجدت هذه المؤسسات لأجلها، بل ويتنافى مع الأمانة التي أُنيطت بالقائمين عليها، والمسؤولية الشرعية والأخلاقية التي تفرضها عليهم طبيعة العمل الدعوي والتربوي.

رقابة ذاتية... وأداء مؤسسي

ولعل أعظم أنواع المتابعة، تلك التي تنبع من الداخل، من ضمير العامل، وإيمانه بقدسية عمله، وحرصه على تحقيق الإنجاز. لكن هذا لا يغني عن المتابعة المؤسسية القائمة على التخطيط والملاحظة والتقويم، فالمؤسسات الناجحة تجمع بين المتابعة الذاتية والرقابة المؤسسية، وبين الضمير الفردي والإجراء الإداري، وبين المسؤولية القلبية والمسؤولية التنظيمية.

وبذلك تضمن الاستمرار، وتحقق الإنجاز، وتكسب القبول في محيطها الداخلي والخارجي.

شاهد أيضاً

صناعة القلب الرحيم: كيف نصنع طفلاً متعاطفًا ومحبًّا للخير؟

طُبعت النفس الإنسانية على الشعور بالأمان تجاه ما تعرفه، ومن هنا تجد الطفل يشعر بالراحة …