يحمل كثيرون مقولة قارون {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 98] على ظاهرها فحسب، أي أنه أوتي ما أوتي من نِعَم بسبب غزارة العِلم. لكنّ مراجعة تفسيرات الآية تنبهنا لوجه آخر لنفس النزعة القارونية، وهو استشعار أحقية حقيقية على الله، إذ لولا أنه عند الله تعالى ذو مكانة ورضا ما خولّه تلك النعم! وهذه النزعة القارونيّة ما تزال كامنة في بني آدم اليوم، وحتى في نفوس المسلمين مع الأسف، بالشعور الخفي بأنّ ما نحن فيه من نِعَم - وإن نسبنا فضلها لله تعالى - هي لفضلٍ فينا نحن، استحققناها بسببه من الله. وليس أدلَّ على هذه النزعة من كمّ السخط والمرارة المترتبيْن على ما نشعر أننا حُرمناه من نعم أو فاتنا من رزق، نرى أنه كان حقًّا يجب أن نوفّاه!
وهذي هي الآفة العظمى التي تصيب ديانة المؤمن في الصميم: التّيهُ بنبرة الأنا والاختيال بصيغة الفاعل وإعظام قَدر الذات، بما ينسينا ويطمس في وعينا حقيقة المخلوقية والعبودية الكامنة فينا حتمًا ودومًا.
نحن لا ننفك عن الشعور بالانفصام والانقسام الداخلي بكلّ تلك الوجوه والألسنة التي نحملها!
وليتنا نرتدع عن تلك المجترئة المتعاظمة عند حدود الخالق، بل نمدّها لتطأ حِمىً لا ينبغي لمخلوق مقاربته أصلًا ناهيك أن يكون من المؤمنين! فنسائل ربنا في أفعاله، ونجادله في تشريعه، ونراجعه في تقديره، ونحاسبه في تصريفه، وننصّب من أنفسنا أندادًا بامتياز بلسان الحال والأفعال، ونردد بلسان المقال مع كل ذلك وبرغم كل ذلك إقرارنا له بالألوهية وعلى أنفسنا بالعبودية! فأيّ لسان فينا هو الصادق وأيها الكاذب؟ لا عجب والأمر كذلك أننا لا ننفك عن الشعور بالانفصام والانقسام الداخلي بكلّ تلك الوجوه والألسنة التي نحملها!
وتأمل في قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49]. فإن منبع استعزازك وانتفاشك بالنعم والقوة، هو عينه سبب خسرانك وإذلالك، إذ لم تأخذه بحقه وغفلت عن معنى الاختبار فيه.
واسمع لحكاية العابد الذي عبد الله 500 سنة، كما وردت في كتاب "المستدرك على الصحيحين":
[عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: "خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّ لِلَّهِ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، عَبَدَ اللَّهَ - تَعَالَى - خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبَعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ فَتَسْتَنْقِعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً فَتُغَذِّيهِ يَوْمَهُ، فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ مِنَ الْوَضُوءِ وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عِنْدَ وَقْتِ الْأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا، وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى بَعَثَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ قَالَ: فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا، فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ:- أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.
- فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي!
إذا كان المصطفى لم يَنسِب لنفسه الاستحقاق واستشعار الفضل، فمن أين نستقي نحن ذلك الاعتداد واليقين في استحقاق مكافآتنا على الله
- فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.
- فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، بَلْ بِعَمَلِي!
- فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.
- فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي!
- فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْمَلَائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ! وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ! فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ! قَالَ: فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ، فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ! فَيَقُولُ: رُدُّوهُ. فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ
- فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي، مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟
- فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ!
- فَيَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكَ أَوْ بِرَحْمَتِي؟
- فَيَقُولُ: بَلْ بِرَحْمَتِكَ.
- فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ؟!
- فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ!
- فَيَقُولُ: مَنْ أَنْزَلَكَ فِي جَبَلٍ وَسَطَ اللُّجَّةِ، وَأَخْرَجَ لَكَ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَقْبِضَكَ سَاجِدًا فَفَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ؟!
- فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ!
- فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِيَ الْجَنَّةَ فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي، فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.
قَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: "إِنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ "] ا. هـ.
والأثر وإن كان في سَنَدِه كلام، فإنّ معناه صحيح لا ريب فيه. فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ"، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لا، وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ} [البخاري ومسلم].
فإذا كان المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو مَن هو في جلال قَدره عند الله في الدنيا والآخرة، لم يَنسِب لنفسه ذلك الاستحقاق واستشعار الفضل، فمن أين نستقي نحن ذلك الاعتداد واليقين في استحقاق مكافآتنا على الله، أضعاف ما نوقن في الله تعالى أصلًا؟!
الخالق تعالى كلّف خلقه، ثم جعل من اجتهادهم في القيام بالتكليف سبب تحصيل مرضاته ودخول جناته، حتى لا يتقاعس أحد عن الأخذ بالسبب ويتكاسل عن القيام بالتكليف
ومع أنّ الله تعالى صاحب الفضل ابتداء وانتهاء، لكنه من عظيم كرمه ومحبته سبحانه لمن استقام على أمره، نسب الجزاء إلى جهدهم: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. وانظر لفهم المؤمنين الحق، وابتداءهم بحمد الله على فضله بالهداية والتوفيق، قبل أن يشكر الله لهم عملهم.
فالخلاصة أنّ الخالق تعالى كلّف خلقه، ثم جعل من اجتهادهم في القيام بالتكليف سبب تحصيل مرضاته ودخول جناته، حتى لا يتقاعس أحد عن الأخذ بالسبب ويتكاسل عن القيام بالتكليف، راكِنًا لسوء تأويله لرحمة الله: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
لكنّ بذل أسباب الجهد لا يعني أن يغترّ العبد بنفسه وأُعَيمَالِه (تصغير أعمال)، فيعتقد "جازمًا" أنه يبلغ بها "مُستَحِقا" مطالبة الله المُجتَرئة بجزاءه الأوفى ومكافأته اللائقة! فإن العبد لن يستوفي أبدًا بشيء من عمله حقّ خالقه عليه، ولن يكافئ مطلقًا عظيم الأجر الذي يشرّفه الله به بما فوق الجنة، من رؤية وجهه الكريم.