النجاح الحقيقي في العمل الدعوي لا يقاس فقط بكمّ الأنشطة أو حجم الانتشار، بل بما يحكم العلاقة بين أفراده من روابط إيمانية أصيلة، تنبثق من منهج الله سبحانه وتعالى، وتُثمر تآلفًا قلبيًا عميقًا، تتحول فيه العلاقات من التزامات تنظيمية إلى روابط أخوية تُكمل الإيمان، وتجعل من كل محضن تربوي محضنًا للإحياء لا مجرد حضور.
فالأخوة في الله ليست حالة عابرة أو شعورًا شخصيًا، بل أصل أصيل في المنهج الإسلامي، ربطه الله تعالى بالإيمان فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وهي المعنى الذي حرص النبي ﷺ على ترسيخه منذ اللحظة الأولى له في المدينة حين آخى بين المهاجرين والأنصار، مقدِّمًا بذلك نموذجًا عمليًا لتماسك الجماعة المؤمنة، وكيف تكون الأخوة في الله لبنة أولى في بناء أي كيان دعوي أو تربوي.
لكن ما إن تغيب هذه الروح الإيمانية، حتى يتحوّل العمل الدعوي إلى مجرد نشاط تنظيمي، ويفقد المحضن التربوي قدرته على التأثير والإحياء، وتتحول لقاءاته إلى روتين جاف لا يحمل دفء المشاعر ولا وهج الحب في الله.
مظاهر البرود في المحاضن التربوية
يُدرك المربّون أن تراجع حرارة العلاقات الأخوية له دلائل واضحة؛ فحين يأتي الأعضاء إلى اللقاء بلا شوق، ولا يُظهرون اهتمامًا حقيقيًا ببعضهم خارج اللقاء الأسبوعي، ويسيطر الفتور على السلام والترحيب، ويغيب التواصل في مناسبات الفرح والحزن والمرض، ويتراجع السؤال والمساندة، فاعلم أن ثمة خللًا أصاب النسيج الأخوي في المحضن.
وقد يزداد الأمر سوءًا حين تصبح اللقاءات مشغولة بالمهام الإدارية البحتة، أو يغلب عليها الطابع السياسي والحركي، بينما يتراجع الاهتمام بالروح الإيمانية، فتُقصى مشاعر الأخوة لصالح الإنجاز الظاهري، في حين يتراكم الجفاف في القلوب.
جذور الأزمة.. ما الأسباب؟
من أبرز أسباب هذا التراجع:
- ضعف التربية الإيمانية والأخوية داخل المؤسسة، بحيث لا تجد هذه القيم ما يُغذيها من برامج ومواقف وسلوكيات.
- إهمال الجوانب الشعورية في المناهج، وعدم تأصيل مكانة الأخوة في الله داخل المحتوى التربوي.
- قلة الأنشطة الجامعة كالمعسكرات والمبيتات والبرامج الترفيهية التي تتيح التفاعل الإنساني والتقارب النفسي.
- ضعف التواصل بين الأعضاء خارج إطار اللقاء الرسمي، وغياب المتابعة الفردية.
- انشغال المحاضن بالعمل الإداري البحت، وضعف دور القدوات الملهمة التي تجسّد معاني الحب الإيماني.
- التباين الشديد بين أفراد المجموعة في الطبائع أو الهمم، ما يمنع تشكّل علاقة قوية، خصوصًا مع التنقل السريع بين الأقسام.
- قلة اللقاءات الإيمانية المفتوحة التي تُنعش الروح وتعيد توجيه القلوب.
خطوات عملية لتجديد الأخوة الدعوية
أول ما يجب فعله هو إحياء الوعي بأهمية الحب في الله، وترسيخ هذه القيمة على أنها عبادة يُتقرَّب بها إلى الله، لا مجرّد شعور عابر. ومن ذلك:
- تقديم برامج إيمانية دورية تُذكّر بمكانة الأخوة وتعزز حضورها في الوعي والسلوك.
- تنظيم أنشطة جماعية غير رسمية تقوي الروابط الإنسانية: مبيتات، رحلات، لقاءات ترفيهية، أفراح وأحزان مشتركة.
- إدراج مادة الأخوة كجزء أصيل من المناهج، وتفعيلها عمليًا لا نظريًا فقط.
- ترسيخ ثقافة المبادرة بالحب والسؤال والمساعدة، لا انتظار من يبدأ.
- تشجيع الأعضاء على الهدايا، والزيارات، والاتصال المنتظم، وتحويل معاني الأخوة إلى سلوك يومي.
- إجراء دورات تدريبية في مهارات التواصل وكسب القلوب، ونشر فنون الترحيب والاحتواء.
- تقليل الانشغال بالمجريات الإدارية والسياسية حين تؤثر سلبًا على جوّ اللقاءات التربوية.
- اختيار القادة التربويين ممن يملكون روح الأخوة والمحبة، القادرين على بناء المجموعة لا إدارتها فقط.
- عدم إهمال العناصر ضعيفة الإنجاز لكن قوية الروح، لأنهم ذخيرة القلوب وإن قلّ إنتاجهم الظاهري.
تجارب نبوية ملهمة
النبي ﷺ لم يبدأ بناء المجتمع الإسلامي بتكوين جهاز إداري أو حركي، بل بدأ بترسيخ الأخوة الإيمانية. آخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، فكانت الأخوة أسبق من المال والتنظيم.
هذا النموذج يجب أن يُحتذى به في كل محضن دعوي، فحين تترسخ مشاعر الأخوة بين الأعضاء، تُبنى الثقة، ويقوى العطاء، ويصبح المحضن منبعًا للدفء الإيماني، لا مجرد مكان يُطلب فيه الإنتاج.